العدوان الأمريكي وعمليات “ما بين المفاوضات”
لا يمكن إدراج العدوان الأمريكي الجديد على الحدود السورية العراقية، بعيداً عن التبريرات المعتادة في هذه الحالة، إلا في سياق ما يسمّى بالعمليات “ما بين المفاوضات” كما يدعوها البعض، وهي عمليات إجرامية ومدانة، رغم جمال العبارة التي كان يراد منها، ولا زال، أن تقدّم توصيفاً حيادياً لا يفرّق بين القاتل والقتيل، والمجرم والضحية، ورغم هذه “الحيادية” اللغويّة للعبارة إلا أن واشنطن ابتذلتها أكثر من غيرها فيما ابتذلته من تعابير مشابهة مثل “الحرب على الإرهاب”، و”حقوق الإنسان” وسواها، بهدف التستّر على سياسة إجرامية تقوم بصورة أساسية على الإرهاب الدولي المنظّم والمنفلت من كل عقال أخلاقي أو قانوني وكل شريعة سماوية كانت أم أرضية.
المهم أن هذا العدوان اللافت في توقيته -قبل انتهاء قضية “النووي الإيراني” وعشية انعقاد اجتماع المؤتمر الوزاري الموسّع في روما والمخصص لسورية- يؤكّد أن واشنطن وجدت من المناسب لها، في هذه المرحلة، دعم “مفاوضاتها”، المباشرة مع إيران وغير المباشرة مع سورية وحلفائها، بعدوان مسلح ربما يضيف إلى أوراقها السابقة ورقة عملية قوية في هذا السياق.
وإذا كانت مفاوضات “النووي” علنية في أطرافها وأهدافها، فإن “اجتماع روما” الذي يبدو في المظهر مكرّساً لرص صفوف الحلفاء خلف القيادة الأمريكية، إلا أنه يحمل، في مغزاه النهائي، دعوة تفاوضية أيضاً لموسكو ودمشق بنودها الأمريكية واضحة: زيادة عدد المعابر على الحدود السورية التي اقترب موعد النظر فيها أممياً، لكن ليس بدافع إنساني كما يشاع -فالمعابر المقترحة تقع أصلاً تحت سيطرة قوى الاحتلال التركي والأمريكي وبالتالي من الممكن إدخال المساعدات منها بذات الصورة التي تدخل فيها الأسلحة والإرهابيين وقوات الاحتلال وتخرج الثروات المنهوبة- ولكن لأهداف محدّدة، بعضها آني، وبعضها مستقبلي، ولكنهما متلازمان مترابطان، بحيث يفيد الآني منها في الإمساك بشريان الحياة لمجموعة بشرية سورية كبيرة وربطها بالخارج حتى يتحقق أحد أمرين -وهنا يظهر الشق المستقبلي من الهدف- وهما إما إخضاع دمشق وتغيير سياستها، أي مكانها ومكانتها في محور إقليمي ودولي محدّد، أو إبقائها ضعيفة تدور في دوامة الأزمة عبر تعزيز أوهام النزعات الانفصالية لدى البعض، وخلق ما هو غير موجود منها لدى بعض آخر، والأهم، إبقاء جغرافيا سورية ثريّة اقتصادياً خارج سيطرة دمشق، وبالتالي إبقاء سيف “لقمة عيش” المواطن مسلّط عليه أملاً بدفعه، جوعاً، خارج منظومة الإجماع الوطني السوري وتوجهاته المعروفة والمعتادة.
هنا تحديداً نفهم سبب بروز بعض الظواهر على مسرح الأحداث مؤخراً، منها مثلاً التعديلات المفاجئة على قائمة المدعوين لاجتماع روما، حيث استفاقت واشنطن فجأة على ما يسمّى “الجامعة العربية” ودعتها للاجتماع، ومنها أيضاً سيل الإشاعات التي خرجت من واشنطن ذاتها عن نية “الإدارة” سحب الاعتراف الأميركي بـ”سيادة إسرائيل” على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
ففي الحالة الأولى، دعوة الجامعة، يبدو أن السبب الرئيس فيها هو “ورقة” الانفتاح العربي على دمشق، لتقول واشنطن للجميع وبحضور “الجامعة” إنها وحدها من تملك مفاتيح هذا الباب (فتحاً أو إغلاقاً) وللحالتين ثمن يجب على دمشق دفعه للأمريكي لا لأحد آخر، وإلا ما مبرر حضور “الجامعة” وهي، كما يعرف الجميع، جاهزة للتقيّد غير المشروط برغبات وأوامر واشنطن حالما تصلها، ولو شفهية، من موظف ثانوي في قسم الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الأمريكية.
وفي الحالة الثانية، إشاعات سحب التأييد، فهي أيضاً تندرج في سياق التلويح بورقة الأرض المحتّلة، وتلك حالة ابتزازية غير مسبوقة في “نذالتها” السياسية وسبّة عار في جبين نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
خلاصة القول، لهذا العدوان الجديد وظيفة تفاوضية تراكمية لأهداف أمريكية خالصة تُضاف إلى ورقة الأرض المحتلة وورقة المعابر الإنسانية، وهذا الربط الأمريكي، وخاصة بالمعابر، لا يمكن وصفه إلا بالابتزاز السافر، وإلا لما الإصرار على أن تكون المساعدات الإنسانية عن طريق معابر تسيطر عليها قوى احتلال غير شرعي؟!! ولما لا توافق واشنطن على الأمر الطبيعي والشرعي، والإنساني في هذه الحالة، وتكون المساعدات الإنسانية عبر دمشق، التي تملك مقعدها وعلمها بين دول الأمم المتحدة، دعماً لسيادتها واستقلالها ووحدة أراضيها كما يتشدّق الأمريكان و”أصدقاء سورية” في روما وغيرها؟!!.
أحمد حسن