“درب السما”.. طريق نحو الخلاص
تأخرت المؤسّسة العامة للسينما -إلى حدّ ما- في إطلاق العروض التجارية في المحافظات السورية للفيلم السينمائي الذي أنتجته عام 2019 “درب السماء” للمخرج جود سعيد عن نص اشترك في تأليفه إلى جانب سعيد الفنان أيمن زيدان بطل الفيلم مع الكاتبين سماح القتال ورامي كوسا، لكن أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً، المهمّ أن المؤسّسة بدأت الترويج لأفلامها خارج العاصمة بعد أن كانت تبقيها حبيسة الأدراج بانتظار مناسبات معيّنة وتظاهرات سينمائية لترى النور.
هذه الخطوة وإن جاءت متأخرة فإنها من الأهمية بمكان ما يجعلها حاجة ماسة لدعم السينما السورية وإتاحة الإمكانيات اللازمة لتطويرها والسير بها نحو الإنتاج السخي القادر على صناعة سينما يمكن أن نخرج بها مستقبلاً، تجارياً، خارج حدود الوطن، ولاسيما أن الجولة تجاوزت مركز المدينة لتشمل المناطق، وهذا يقودنا للحديث عن الفضاءات التي تسبح في فلكها أفلام القطاع العام، والتي تفرض عليها نصوصاً ذات معايير تتحكّم بها وجهات نظر مؤدلجة تحتاج إلى إعادة النظر بها للارتقاء بالنص السينمائي إلى سوية الحدث المعاش، مواكبةً وقراءةً، فالحالة الانطباعية التي تغرق بها السينما السورية منذ سنوات طويلة تجعلها، من وجهة نظر أغلب المتابعين، تفصّل على مقاسات المخرجين ورؤيتهم الانطباعية والتشكيلية، ولا ترتقي لمستوى الهمّ الشعبي العام، هذا الهمّ الذي يجعلها أكثر قرباً وتلاحماً مع مزاج المتلقي العام ترفيهياً، وتحريضياً، وتوجيهياً. فالمخرج السينمائي السوري في العموم، ينحاز للصورة السينمائية أكثر من الفكرة، وأغلب الأحيان على حسابها، ويتعامل معها كحالة فنية تشكيلية تماثل التجريد أحياناً، لذلك يأتي الشريط السينمائي، في معظم الأفلام، مبتور الأفكار، غير متناسق التسلسل السردي.
هناك أحداث تتصدّى لها السينما السورية في الفترة الأخيرة تحتاج إلى حيّز زمني لا يمكن لشريط سينمائي مدته الزمنية ساعتين إلا ربع، أن يحيط بها، أو يعطيها حقها من المحاكاة والقراءة والتجسيد، دون اللجوء إلى قفزات زمنية تفقد الرسالة محتواها الجوهري، لذلك يحصرها المخرج ضمن مشاهد إنسانية انطباعية ضيّقة، وصور بانورامية للأماكن المرتبطة بالبيئة السينمائية لاختزال رسالته، هذا الكلام ينطبق إلى حدّ ما، على نص فيلم “درب السما” الذي شاهده جمهور محافظة حمص مدينة وريفاً، في ثلاثة عروض متتالية على مسرح قصر الثقافة، ولم يستقبل، جماهيرياً، بالحفاوة المعهودة، ولاسيما عرضه الأول، وقد يعود ذلك إلى تخلف أبطال الفيلم عن حضور عرض الافتتاح، رغم ما للفيلم ومخرجه من علاقة وطيدة بالمدينة التي تعرّضت لتدمير عدد من أحيائها بفعل الأحداث المأساوية التي مرت عليها، فقد حضرت حمص علناً وضمناً في أكثر من فيلم لجود سعيد، وهو بهذا الفيلم يأخذ من حيي الورشة والحميدية، دون أن يشير إليهما علناً مكاناً لمجريات أحداث فيلمه الذي يتابع فيه ما بدأه من أفلام حرب السنوات العجاف الماضية.
يتنقل الفيلم بأسلوب السرد السينمائي الذي يتولّى الفنان أيمن زيدان بطل الفيلم مهمته، بين مكانين وفق تقنية الاسترجاع، المكان الأول قرية الأستاذ زياد التي عاد نازحاً إليها بعد أن أجبره مسلحو الحي الذي يسكنه في المدينة على النزوح عنه، بعد أن قتلوا ابنته وحبيبها شنقاً وتركوا جثتيهما معلقة على عمود الكهرباء، لأنه بنظرهم غريب ويجب أن يغادر، والثاني هو الحيّ الذي ولد فيه كل أبنائه وجمعته مع سكانه ألفة ومودة لم يكن يتوقع أن تهون على سكان درَّس أغلب أبنائهم.
الحكاية غنية بالأفكار والمقولات التي تحتاج إلى استفاضة بالتفاصيل للإضاءة عليها والتوسّع في معالجتها ضمن إيقاع متسارع يحاكي التسارع الدراماتيكي للأحداث.
ما قدّمه جود سعيد في هذا الشريط ليس أكثر من مشاهد سينمائية متداخلة زمانياً ومكانياً تسير وفق إيقاع بطيء يفتقر إلى عنصر التشويق وضع المشاهد في حالة بحث عن البداية، واقتفاء أثر النهاية التي بقيت مفتوحة على كل الاحتمالات، أو مجهولة النتائج كما كانت الحرب تقود ضحاياها نحو مصائر يصعب التكهن بها، أو حتى تداركها.
صور من مآسي الحرب تلخص ما أصبح عليه السوريون، شاب فقد بصره وآخر ساقه، وآخرون منازلهم، وغيرهم ابتلعهم البحر في طريق الهجرة نحو الشتات، لكنه وسط تلك المشهدية المؤلمة هناك فسحة للأمل والفرح يراها الفيلم في محبة الناس الذين آذتهم الحرب وتكاملهم مع بعضهم البعض لتجاوز المحنة والسير نحو حياة جديدة، والتصدي لشرور وأطماع الانتهازيين وتجار الأزمات، الذين يمثلهم ياسين شقيق الأستاذ زياد.
يحاول الفيلم إظهار الخلل الكبير الذي أصاب بنية المجتمع السوري، ودمار القيم الناظمة للعلاقات الإنسانية، فقد شكّلت الحرب امتحاناً حقيقياً لمعدن الإنسان وقيمه، هناك المسلحون الذين درّسهم الأستاذ زياد الأدب واللغة العربية وعلّمهم معنى الحب والتسامح، وهناك أخوه الأصغر الذي كان يرى فيه الرفيق والسند، جاءت الحرب لتعري حقيقتهم والخراب الإنساني الذي يحملونه في نفوسهم، بالمقابل هناك زياد، وجاره أبو محمد “جرجس جبارة”، وولده الذي بقي معه مقتدياً بمثله ومبادئه ومديرة المدرسة الآنسة مريم “صفاء سلطان” كل هؤلاء يقدمهم نموذجاً للأمل وسبيلاً لإصلاح ما دمّرته الحرب، ومتابعة مشوار ترميم المجتمع.
يقدّم الفيلم عبراً ورسائل إنسانية نبيلة، أكثر من محاكاة وقائع وأحداث تتطلّب الإحاطة بها أكثر من زمن الفيلم.
آصف إبراهيم