في ذكرى رحيله: غسان كنفاني حق لا يموت
“البعث الأسبوعية” فيصل خرتش
كنت في كلَ مرة ما إن أقول للطلاب (عندما كنت أعمل مدرساً) أخرجوا القصة فيخرجون رواية (حق لا يموت) لغسان كنفاني، افتحوها على صفحة (كذا) وأمضي في تدريسها، لكن عندما أصل إلى نقطة معينة تنفر الدمعة من عينيَ، فأداري نفسي بأن أدير وجهي نحو السبورة وأمسح الدمعة.
وأم سعد هذه التي تسكن في المخيم، تزور الكاتب، وتحكي له عن ابنها سعد الذي تطوع بالعمل الفدائي، ويبدأ غسان كنفاني يصف لنا يديها وهما تتعانقان كحمامتين أليفتين، ثوبها الفلسطيني العريق، والطرحة التي تضعها على رأسها، إنه يصف كلَ شيء فيها حتى نشعر أنها أمنا التي ربتنا.
غسان كنفاني أكبر إخوته، وهو الوحيد الذي ولد في عكا في 9/ 4/1936، وعاش مع أسرته في حي المنشية بيافا، دخل مدرسة الفرير، وعندما وقعت الاشتباكات بين العرب والصهاينة، التجؤوا إلى قرية (الغازية) قرب صيدا في لبنان، وكان عمره 13 سنة، ثم توجهت الأسرة إلى حلب، فدمشق التي استقر بها، وعمل بعد حصوله على الثانوية، في الإذاعة عام 1952 ثم معلماً وكيلاً، كما عمل في صحيفة الرأي بدمشق، التي كانت تابعة لحركة القوميين العرب، ولم يلبث أن غادر إلى الكويت، وكانت أخته قد سبقته إليها، ثم غادر إلى بيروت ليعمل في جريدة الحرية، وتزوج من دانمركية في عام 1961 وأنجب منها فايز 1962 وليلى 1966 ثم أسس جريدة الهدف وهذه ناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظل رئيساً للتحرير فيها حتى استشهاده، فقد دوَى انفجار رهيب في منطقة الحازمية في بيروت صباح السبت 8/ 7/ 1972 في السيارة التي كان سيركبها، فقد وضع الموساد متفجرة تحت المقود، وما إن أشعل السيارة حتى انفجرت فيه وبابنة أخته التي جاءت من الكويت ليسجلها خالها في الجامعة، وقضت شهيدة معه.
كتب غسان القصة والرواية والدراسات والمقالات والرسائل، وتجلَى في أدبه الالتزام الوطني والقومي، وكتاباته أشبه بتوثيق تاريخي للنضال الوطني الفلسطيني، ومجابهة مخاطر التشتت والاغتراب، لأنه كان ينطلق مباشرة من الوصف المباشر لعملية التهجير، وكانت ذاكرته مولعة بالتاريخ الفلسطيني وجغرافية الوطن الذي تسرب من بين أصابعه، دون أن يستطيع فعل شيء، هو وجيله، وحين امتلأت مشاعره بحب فلسطين وأدرك أن الصهاينة سببوا له هذا العذاب، انفجر فيه الإبداع، إنه يحدثنا عما جرى له، ففي منتصف ليلة 12/5/1048 “صحا أهالي عكا على أصوات عنيفة تأتي من الشرق، لكن الإنسان ليس بحاجة إلى ذكاء كبير ليعرف أنَ هجوماً يهودياً على عكا من التل الذي ركع نابليون أمام أسواره الجبارة”.
كتب روايته “رجال في الشمس” ثم نشر روايته “ما تبقى لكم” ورواية “الشيء الآخر” وكان يخاطب قارئه ساعياً للدخول إلى قلبه لأنه يروي بكل صدق وإخلاص.
إن رواية “عائد إلى حيفا” تجسد حالة الضياع للوطن، غربة خلدون العربي، ودوف الصهيوني، وتؤكد على حالة الصراع والغربة الداخلية، إنه ينتمي إلى أبوين عربيين (سعيد وصفية) وقد هربا من مجازر الصهاينة عام 1948 وتركا الرضيع للمجهول، فاستلمته أسرة يهودية (مريام وكوش) ونشأ على المفاهيم الصهيونية حتى صار جندياً في الجيش الإسرائيلي، وحين يلتقيان يفشل سعيد في استعادته، ولا يبقى أمامه إلا أن يسأل صفية، ما هو الوطن؟ ثم يجيب بنفسه عن هذا السؤال، أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطائر، صورة القدس على الجدار، المزلاج النحاسي، شجرة البلوط، الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون، أوهامنا عنه، الأبوة، البنوة؟ وكأنه يريد أن يقول لنا: “لو أن أبناء فلسطين تشبثوا بها حباً وتعلقوا بها شغفاً لما كان بوسع أحد أن يطردهم منها.
غسان الذي انتصر على آلام اللجوء وقسوة الحياة، زادته آلام نكسة حزيران معاناة وقهراً، لذلك راح يتعلم من الجماهير، لأنها المعلم الحقيقي والذي في صفاء رؤياه تكون الثورة جزءاً لا ينفصم عن الخبز والماء وأكف الكادحين ونبض القلب، وأم سعد تحتضن الثوار، رمز للمرأة الفلسطينية المناضلة بخلاف ما كانت عليه صفية فهي لم تفعل شيئاً هي وسعيد زوجها، مما جعلهما يفقدان ابنهما.
إنَ حيفا تذيب مشاعر الأديب غسان كنفاني، وهو يتلفع بها وبطبيعتها ليوقظ في نفوسنا معنى الارتباط بالأرض / الوطن لأنه زمان ممتد في المكان والأشياء والطبيعة، لقد نجح في لغة الحوار فنقل إلينا صورة بديعة من الأسى الذي يلف المجتمع الفلسطيني، كما نجح في رسم ملامح المرأة الفلسطينية التي تمثل صفية جانبها السلبي إذ كانت دموعها تنبئ بما هي عليه من أسى وحزن.
إننا أمام أديب مبدع، واحد ممن لفتوا نظر العالم إلى أدب المقاومة في الأرض المحتلة، وذلك في كتابيه (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة) الصادر في بيروت عام 1966، (الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال) الصادر في بيروت عام 1968، وقد قال محمود درويش عنه: “بقينا مجهولين إلى أن قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية المشهورة: الإعلان عن وجود شعر مقاوم في الأرض المحتلة، فانقلبت المعادلة داخل الأرض المحتلة وخارجها، ومشى التطرف إلى نقيضه المتطرف”، وكذلك نشر كتاب (في الأدب الصهيوني) عن مؤسسة الأبحاث الفلسطينية.
صاغ غسان من ريشة فنه علاقة انتماء مع الأرض والوطن، ورسم صورة حيفا ويافا لوحات فنية رائعة، وكذلك شرَح الوضع العربي وحالة الصراع العربي الصهيوني، فهو أديب سياسي ملتزم، ورمز للأدب المقاوم وحياته كانت حافلة بالدفاع عن قضيته.
حاز الكاتب في حياته وموته على الجوائز والأوسمة التالية:
– جائزة أصدقاء الكتاب، عام 1966 عن روايته (ما تبقى لكم)- جائزة منظمة الصحفيين العالميين، عام 1974- جائزة اللوتس، عام 1975- وسام القدس للثقافة والفنون، عام 1990-
_ المراجع:
جمالية الشخصية الفلسطينية د. ماجدة حمود، دار النمير، دمشق 2003.
عائد إلى حيفا، الكتب الشهري الصدر عن اتحاد الكتاب العرب، تموز 2009.
غسان كنفاني، عدنان كنفاني، المؤسسة 2001.