نحّال حلب
د. نضال الصالح
عنوان هذا الحديث هو نفسه عنوان رواية الكاتبة البريطانية كريستي ليفتيري، الصادرة عن إحدى أكبر مؤسّسات النشر في الولايات المتحدة الأمريكية، بالانتين، سنة ألفين وتسع عشرة، والتي حظيت فور صدورها بمراجعات كثيرة في الصحافة الأدبية الأوروبية والأمريكية، وتصدّرت التصويت الإلكتروني لهيئة الإذاعة البريطانية بوصفها أفضل كتاب صوتيّ لعام ألفين وعشرين، ثم حصلت جائزة “أسبن” الأدبية في دورتها الثالثة في العام نفسه، وتمّت ترجمتها إلى العربية بتوقيع مهدي سليمان، وصدرت عن دار الخان في الكويت قبل نحو عام.
لا تقدّم محرّكات البحث على الشبكة العنكبوتية معلومات كثيرة عن ليفتيري، ومجمل هذه المعلومات لا يتجاوز ثلاثاً: ولادتها في لندن لأبوين لاجئين من قبرص، وعملها، في جامعة برونيل، محاضرة في الكتابة الإبداعية، فمتطوعة في مركز لدعم اللاجئين في أثينا يعود لمنظمة اليونيسيف، فصاحبة يتيمة سردية قبل “نحّال حلب”، هي: “بطيخة وسمكة وإنجيل”، معنية بالصراع التركي اليوناني على جزيرة قبرص.
تمتد الرواية، في أصلها الإنكليزي على ثلاثمئة وست وثلاثين صفحة. وحسب ليفتيري، كما كتبت على الغلاف الثاني للرواية، أنّ الأخيرة “ما هي إلا عملٌ أدبيّ خياليّ، ولكن نوري وعفراء لم يتكوّنا في قلبي وعقلي سوى نتيجة لكلّ خطوة خطوتها بجانب الأطفال والأسر التي نجحت في الوصول إلى اليونان. لقد كتبتُ هذه الرواية بمثابة وسيلة لإنارة الدرب، ولأقول بأننا مع الناس، الناس الذين يشكّلون مبلغ همّنا واهتمامنا أكثر من أيّ شيء في العالم عندما عانينا من هذه الخسارة الفادحة العظيمة. فالرواية تتمحور حول الفقد العميق، ولكنها أيضاً رواية تُعلي شأن الحبّ وإيجاد النور، ففي هذه الرواية أبثّكم ما رأيته وسمعته وأحسسته في شوارع أثينا ومخيماتها”.
ليس من شواغل هذا الحديث مقاربة الرواية نقدياً، بل استعادة السؤال المؤبد في النقد الأدبيّ، وهو: إلى أيّ حدّ يمكن عدّ العمل الروائي وثيقة، أو تأريخاً بديلاً من التاريخ الرسمي؟ فسؤال مجاور له هو: هل تكفي المشافهة، لا المعايشة، لكتابة عمل روائي عن حدث جليل مثل الحدث السوري الملتهب ممّا قبل عشر سنوات إلى الآن؟.
لقد تمّ استقبال “نحّال حلب”، والاحتفاء بها، والصخب لها، بوصفها وثيقة عن “التغريبة السورية”، وهي ليست كذلك لأنّ محكيّها ينطوي تحت عباءة ما يمكن الاصطلاح عليه بـ “العَوَر السردي”، أي الكتابة التي ترى بعين واحدة، شأنها في هذا شأن أيّ كتابة تتوهم أنها مرآة عاكسة للواقع، وتزعم تصويرها الصادق للمرجع الذي تصدر عنه، وهو ما يعرفه أبناء حلب الذين اكتووا، ربّما أكثر من غيرهم من السوريين، بلظى الجحيم، والذين لا تحيل الشخصيتان المركزيتان في الرواية، إنْ صح تجنيسها كذلك، عليهم بتمام الحقيقة وكمالها من جهة، وتنفي الرواية نفسها خارج فضاء الوثيقة من جهة ثانية، وتعزّز، من جهة ثالثة، أطروحة الناقد الفرنسي رولان بارت القائلة إنّ السماع معرفة من الدرجة الثانية.
وبعد، وقبلُ، فإنّ التصفيق لصنيع ليفتيري إرادة سياسية بامتياز، وشتّان ما بين الكتابة المحكومة بإرادة السياسة وتلك البازغة من إرادة الفنّ.