الإنسان كقيمة كبرى
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
قال أحد النقاد: “كل يأس من الإنسان خطأ لا يغتفر، فالظروف القاسية قد تؤدي إلى موت النبتة الهشة، لكنها تزيد قوة النبتة التي تملك القدرة على المقاومة والتحدي، وتفرز الجوهري من الهامشي، فعندما ينسكب كأس الماء فوق الرمل من الطبيعي أن يمتص الرمل ذلك الكأس، لكن الموهبة – النبع تجرف الرمل وتشق طريقها في الحياة، وقد تستمر في التدفق إلى الأبد، كما هو الحال مع المتنبي الذي ارتقى بالصورة الشعرية إلى مستويات عالية، وقدم صوراً شعرية شديدة التعقيد من جانبها المفهوم والبسيط، وهنا سرّ الإعجاز، حتى أن الكثير من أبيات الشعر التي وردت في قصائده تحوّلت إلى أمثال يتداولها الناس في حياتهم اليومية، وهذا يعني أنه لم يخترق زمنه فحسب بل اخترق موته أيضاً، وظل حياً في كل الأزمنة التي تلت ذلك الموت، وهو حيٌ معنا بدليل أننا نكرر كلامه ونستشهد به ونستضيء بجماليات شعره.
من هذا المنطلق يمكن للإنسان أن يستعيد طاقاته وإمكاناته واستعداده للتطور إذا أتيحت له فرصة التعبير بالقول والفعل عن أفكاره ووجهات نظره في الأمور عامة، فالظروف التي تحيط بالإنسان، إذا كانت سيئة، قد تجعل المبدع يتوارى، والإنسان الفعال يصبح هامشياً، فالإنسان قيمة لا تنتهي نهائياً.. حتى الأفعال التي ترتقي بها الإنسانية تدفعنا أكثر للتأكيد على إنسانية الإنسان، وفي هذا الزمن المليء بالتخبطات والصراعات نرى أنفسنا نعيش حالة من الصراع، ما بين عقلنا وعاطفتنا وإرادتنا، لنستطيع أن نثبت وجودنا، وما يجري الآن ساهمت به العقلية الجمعية كثيراً في الميل إلى العنف وإلى التصرفات التي تتنافى مع أدنى درجات الإنسانية. لكن هذا لا ينفي وجود إنسانية، ولا ينفي البحث عنها والتأكيد عليها، وهذا يعيدنا إلى الطبيعة التي تمثل كينونة الإنسان الأولى وبقدر ما يكون متفاعلاً مع هذه الكينونة بجميع ملكاته فإنه يستشعر الجمال فيها، ويترك لنفسه أن تفصح عن مكنوناتها؛ وفي تلك اللحظات يمكن له أن يعاين القدسي فيه دون حاجته إلى أماكن مشيّدة، إذ يكون وما حوله واحداً، ويستشعر اللحمة المبطنة للأجزاء، وحين يدرك ذلك في أعماقه يكون في قلب الحياة، أما وقد ابتعد الإنسان عن موطنه الأصلي، الطبيعة، فقد شيّد في داخله ومن حوله الحواجز والحدود.
هنا تحضرني مقولة لأحد الفلاسفة: “أن نكون يعني أن نكون على علاقة” والعلاقة هي التواصل، تواصل الإنسان مع داخله، ومع الآخرين من حوله، ومع الكون والطبيعة في خبرة جمالية كلية، وكثيراً ما تساءلت وأنا أرنو إلى شجرة أو إلى وجه إنسان إن كان الجمال الذي أراه ماثلاً في الشجرة أم الوجه أم في الشعور الذي يعتمل فيّ آنذاك.. هذه الخبرة الجمالية المعجزة وهي عينها الشعور بالقدسي تأتي من شعور الإنسان المرهف بالتناغم في العلاقات بين الأجزاء وفي استشعار اللحمة الواحدة التي تبطنها، ذلك التناغم الذي يحركه القلب والإحساس بعيداً عن الفكر الذي يشرّح ويجزئ.
النفس الإنسانية إذن هي التي ترى وتحس وتقوّم، وهي التي توّحد وتجمع وتوجد العلاقات بين الأجزاء كي لا تضيع منها الوحدة السارية فيها، وكي لا تضيع العلاقة التي تربط بينها؛ أما الفكر وحده فهو الذي يفصل ويقيم الحواجز. والإنسان المعاصر كرّس الانفصالية، سواء عن قصد أو عن غير قصد، واغترب عن ذاته وعن الآخر وعما حوله، فنراه يفكر ويتكلم ويتحرك ويتواصل، لكن من وراء حاجز سميك، مما يؤكد القطيعة بامتياز!! وحين ينقطع الإنسان عن ذاته وعن الآخر يعيش في عزلة موحشة تنعكس في سلوكه الذي نراه في هذه الأيام من ضياع وتشتت وتسطيح لكل القيم والمعايير، ولا خلاص للإنسان إلا في إعادة وعي اللحمة التي تشده إلى الكل في خبرة جمالية تقوض الحواجز والسدود، وتفتح نوافذ في النفس الإنسانية للإطلالة على الوحدة، على العلاقة، و”الجمال هو الذي سينقذ العالم”، كما قال دوستوفيسكي.