دروس كريشنا مورتي
ناظم مهنا
الهندي كريشنا مورتي من حكماء القرن العشرين، يقف جنباً إلى جنب مع برتراند رسل وألدوس هسكلي وبرديائيف وتولستوي وأنومانو وأورتيغا أي غاست، وكروتشه، إلا أنه يفوقهم جاذبية لما فيه من نكهة شرقية مطعّمة بالعالمية، هو الرجل الذي وصفه هنري ميلر بأنه الأجمل في العالم. هذا الصوفي العميق ربطته صداقات مع معظم رجال الفكر في عصره، على اختلاف توجّهاتهم، بعد أن تحوّل من زعيم جماعة له هالة التقديس إلى مفكر فرديّ في أفق العالم. ولد في الهند عام 1895 وتوفي عام 1986، لقب بـ “المعلم العالمي” وهذا ما رفضه متنازلاً عن هالة التقديس، ووقف مرة أمام أتباعه البوذيين، قائلاً: “دروب الحقيقة متشعبة، وأنا لا أملك طريقاً للحقيقة”، وبذلك حرّر نفسه من الأتباع، وحرّر الأتباع من الانقياد له! وأعلن للعالم سنة 1929 حلّ المنظمة الضخمة والمموّلة التي كانت تتبع له.
عُني هذا المفكر بإصلاح الإنسان أينما كان، في كتاب له ترجمه إلى العربية أسامة أسبر، وصدر في سورية عن دار بدايات بعنوان: “الحرية الأولى والأخيرة”، مقدمة الكتاب للروائي والفيلسوف الإنكليزي ألدوس هسكلي، فيها إضاءة موشورية على أفكار كريشنا مورتي التي هي واضحة دوماً، وتذهب إلى هدفها كالسهم الذي يصيب الذهن بشرر وقاد.
كريشنا مورتي لا يقدّم نصائح، ولا يقدّم دروساً لأحد، ويبدو هذا مناقضاً لعنوان هذه الزاوية، إنه يحاور دون استعلاء، وهو العارف الذي يتحدّث في الفكر كمن يتريض أو يسبح في الصمت!.
صوفية كريشنا مورتي تختلف عن الصوفيات المعروفة التي تُعنى بالكليات دون الجزئيات، صوفيته “مدرحية” وليست باطنية بالمطلق، صوفية تهتمّ بالإنسان المعاصر وبحياته اليومية، وبالعلاقات الروحية والتواصل بين البشر. وباعتقادي تتقاطع صوفيته مع صوفية ابن عربي، من حيث توق ابن عربي للإنسان الكامل، وتوق كريشنا للإنسان الذي يصل إلى معرفة الذات، الإنسان الذي يعرف نفسه أولاً، المتحرّر من المواقف المسبقة، والمتحرّر من قلقه ومن مخاوفه! المتحرّر من الحجب التي إذا اجتمعت في إنسان جعلته شقياً، مشوشاً، يعيش في خضم الفوضى وضجيج العالم، وبالتالي يخفق في أي حوار، لأنه لا يجيد فن الإصغاء! وهذا يخالف الصيرورة التي قدّمها ابن عربي، حين صار قلبه قابلاً كل صورة.
نحن، في حياتنا اليومية، نختلف، نتخاصم، نتحارب، وحين ننهك، نتداعى للحوار، وقد تدرَّع كلّ منا بمنظومة من المواقف المسبقة، ومن الأوهام التي تشكّل مقاومات لإمكانية نجاح أي حوار!، وهكذا ندور في دوامة لن تفضي بنا إلا إلى المزيد من التعاسة والفوضى الشاملة، كما يجري اليوم في هذا العالم! فنحن نُضيّق على أنفسنا ونعمّق مأزقنا الذاتي بأيدينا!. إن وجودنا النفسي برمته، على المستوى الفردي والجماعي، وعلى المستوى العالمي، ببنيته الفوقية والتحتية، مشوش، وإن قلقنا من هذه الفوضى واللايقين، يجعلنا نهرع إرادياً أو لا إرادياً إلى مرجعيات نضفي عليها القداسة، ونلوذ بها، لكنها تزيدنا إرباكاً وتعثراً، وخيبة! يحدث هذا حين ننشد الحقيقة خارج كينونتنا. يقول كريشنا: “إن الإنسان الذي ينشد الحقيقة لن يعثر عليها أبداً، ذلك أن الحقيقة هي في ما هو موجود، وهنا يكمن جمالها!” ويقول: “تبدؤون بالصراع، والإنسان الذي يصارع لا يستطيع الفهم. لهذا يجب أن نكون هادئين، ومراقبين، وواعين بشكل هادئ”.
علاقة الفرد بذاته، علاقة الفرد بالمجتمع وبالعالم، بالمنظومات المعرفية والاجتماعية والدينية، علاقة الإنسان بالرموز، ومنشأ الرموز ودورها في صياغة الإنسان وسلوكه، كلها من المسائل التي يتحاور معها كريشنا مورتي، كل جملة تمنحنا السلام الداخلي، وتحمل في طياتها التساؤل، وتفتح آفاقاً للصحو من الكسل والبلادة والخوف.
كريشنا مورتي داعية للإنسان الحر، وحسب.