الهيبة الروسية دولياً وعلاقتها بالاقتصاد
محمد نادر العمري
لطالما شكّل الوضع الاقتصادي وضرورة دفع نموه وتأمين مقومات تطوره لروسيا محطّ اهتمامها ومخاوفها في آن واحد، خاصة وأنه في مفهوم القوة للإمبراطوريات السابقة، سواء في إقامتها أو الحفاظ عليها أو تطويرها، كانت تفرض عليها تنمية اقتصاد قويّ، ولذلك كانت معظم توسعاتهم لأهداف اقتصادية إلى جانب أهداف نفوذية توسعية عضوية لها مالها من السيطرة، فالإمبراطورية البريطانية مدّت نفوذها للصين التي تبعد عنها ما يزيد عن 9050 كم بهدف السيطرة على المواد الخام، وقامت بالسيطرة على معظم المناطق الحيوية والممرات الواصلة إليها برياً وبحرياً.
بينما الواقع الروسي التاريخي كان يصطدم بهذه النقطة، أي العامل الاقتصادي، وهو عامل المعضلة الذي لم تخفِه روسيا القيصرية، فهي ضمن أدبياتها ليست مع الاحتلال ولم تقم بعمليات غزو على غرار نظرائها من الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والبريطانية، بل كانت معظم حروبها لتأمين الممرات البحرية للوصول إليها وعدم السماح بمحاصرتها وخلافات حدودية مع محيطها، كما أن 73% من مساحة روسيا بارد حدّ الصقيع، فهو لا يصلح للزراعة، مما دفعها أثناء إنشاء الاتحاد السوفييتي السابق لضمّ أقاليم تتمتّع بخصوبة ووفرة زراعية مثل أوكرانيا وروسيا البيضاء اللتين كانتا تشكلان السلة الغذائية للروس على مر الفترات السابقة، وللتأكيد على أهمية العامل الاقتصادي ودوره في قوة روسيا وضعفها نستدل بمؤشرين اثنين في فترة زمنية تختصر بالاتحاد السوفييتي، المؤشر الأولى طرح الاتحاد للنظام البروليتاري لتكريس العدالة الاجتماعية وصراعه مع المنظومة الرأسمالية حوله، والثاني انهياره لأسباب عديدة كان أبرزها وأشدها تأثيراً هو العامل الاقتصادي.
في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واجهت روسيا تحديات جمّة، أبرزها الوضع الاقتصادي وكيفية وضع أساليب ونماذج تحافظ على تماسك روسيا وتضمن وحدتها وأمانها، خاصة وأن النموذج الغربي المتمثل بالرأسمالية استغل فرصة انهيار الاتحاد السوفييتي للتغلغل للداخل الروسي والتحكم بمفاصل القرار السياسي، وكانت هناك صلات وثيقة بين الغرب والمافيات المنظمة التي بدأت تنمو وتنشط في روسيا خلال تلك الفترة، والتي باتت تشكل جماعات ضغط لها مالها من مصالح مرتبطة بالرأسمالية مقابل تفكك منظومة الدولة وترهل أدائها، وهو ما جعل روسيا في فترة الرئيس السابق “بوريس يلتسن” تواجه تعقيدات اقتصادية أضعفت من دورها الدولي.
هذا الواقع أدركه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وصوله للكرملين مع بزوغ الألفية الجديدة، خاصة وأن الروس نتيجة انعكاس ضعف رئيسهم السابق وهيمنة المافيات شعروا بالذل في تسعينات القرن الماضي، وهذا الشعور انعكس على سياساتهم الداخلية والخارجية على حدّ سواء، وهو ما دفع بوتين للتعبير منذ عام 2001 عن رغبة الروسي بالعودة للساحة الدولية للعب دوره واستعادة هيبته، ومنذ ذلك الوقت وضمن المؤتمر الوطني الروسي في عام 2003 طرح بوتين نواة اقتصاد روسي جديد يعتمد بالدرجة الأولى على تأمين المقومات الروسية الذاتية داخلياً، وتصفية منظومة الفساد، وفرض مركزية الدولة على القطاعات الحيوية، وفي مقدمتها الطاقة مع انفتاح تدريجي على الخارج بما تمّ وصفه من قبل خبراء “بالليبرالية المقيدة” لضمان عدم التأثر بالموجات الارتدادية السلبية للنظام الاقتصادي الدولي، وتطوير شكل العلاقات الثنائية وإنشاء تكتلات اقتصادية من شأنها تلافي أخطاء الماضي التي غرقت فيها روسيا في الحقبة السوفييتية، وكان أبرز هذه التكتلات “شنغهاي” و”آسيان” ورابطة البلقان وصولاً للبريكس.
هذه الرؤية “البوتينية” للنظام الاقتصادي الروسي جاءت بنتائج إيجابية كان أبرزها تفادي تأثير الأزمة الاقتصادية الدولية، والتي عُرفت بأزمة “الرهن العقاري” عام 2008، رغم أن السياسات الاقتصادية لم تكن سليمة 100% وخاصة على الصعيد الداخلي، بل تخللها تقلبات واضحة فيما يتعلق بقيمة النقد والوضع المعيشي الذي شهد نمواً بطيئاً في مقابل بداية ظهور طبقة المليارديرية التي مثلت الفئة الأقرب للغرب.
لذلك طرح بوتين عندما كان رئيساً للوزراء في خطابه بمجلس الدوما رؤية اقتصادية تقوم على تحسين الوضع المعيشي والاقتصادي، وفي مجال الخدمات والتعليم والصحة، مع زيادة الاهتمام بالعلاقات الإستراتيجية الاقتصادية لروسيا الخارجية مع الصين، وطرح ضمن رؤية حكومته في تلك الفترة مقاربة تحوّل روسيا من دولة تعاني من عقد اقتصادية ومعيشية لدولة تصنّف على المستوى المراتب الأولى دولياً في هذه المجالات على مدى عقدين من الزمن ضمن خطة إستراتيجية تقوم على ثلاث مراحل، مازالت متبعة حتى اليوم، وهو ما حقّق نمواً لروسيا بـ3.1% رغم أنه ضئيل ولكن اعتبر داخلياً بالمقبول نتيجة حجم روسيا وعدم تأثرها بالأزمة الاقتصادية.
ولكن في العامين الماضيين وخاصة مع مطلع عام 2019 تلقى الاقتصاد الروسي ثلاث صدمات موجعة، أولها انخفاض سعر النفط نتيجة القرار السياسي الأمريكي الخليجي بما يقارب من 55%، ومن ثم انتشار جائحة كورونا وتأثر الوضع المعيشي والصناعي والإنتاجي، حيث سجلت الأرقام تراجع النمو 83%، كما أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من قبل أميركا والغرب تركت تأثيراتها المؤلمة على الاقتصاد الروسي، واعترف بذلك الرئيس الروسي في مؤتمر ميونخ الأخير، وهو ما يضع روسيا مجدداً أمام تحدٍ اقتصادي. فهل تستطيع روسيا اليوم من خلال إمكاناتها وعلاقاتها وتكتلاتها تحويل الأزمة الاقتصادية إلى فرصة لبناء اقتصادي جديد قويّ ومتين؟.