ماذا تبقى من عظمة بريطانيا؟
في الوقت الذي كانت فيه المملكة المتحدة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، بوصفها كانت تسيطر بشكل أو بآخر على أكثر من نصف الكرة الأرضية الجنوبي، أي أن الشمس ترافق مستعمراتها طوال اليوم، كان لهذه الإمبراطورية شأن عظيم تكرّسه سيطرة اللغة الإنكليزية على مساحات شاسعة من الكرة الأرضية.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية التي فرضت نتائجها ظهور قوى جديدة على الساحة الدولية، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وهي من القوى المنتصرة في هذه الحرب، بدأت بريطانيا تدريجياً تتخلّى عن مستعمراتها لمصلحة الولايات المتحدة التي حلّت محلها، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر عبر التبعية، كما حدث مع المستعمرات البريطانية في الخليج.
ولسنا الآن في صدد مناقشة الأسباب التي فرضت انكفاء بريطانيا إلى داخل حدودها والتي تلخصها طبعاً النهاية الطبيعية لجميع الإمبراطوريات في العالم، ولكننا نتساءل هل لبريطانيا في الوقت الحالي أيّ دور رائد في صناعة السياسات الدولية أم هي مجرّد تابع للإمبراطورية الأمريكية التي ورثت التركة البريطانية بالكامل؟.
في الواقع كانت فترة الستينيات من القرن الماضي حاجزاً فاصلاً بين الماضي الإمبراطوري لبريطانيا والحاضر الذي تعاني فيه هذه الدولة من الهرم الذي دفعها في كثير من الأحيان إلى محاولة استعادة مجدها الآفل بشكل صوري عبر قبولها بدور تابع للولايات المتحدة في جميع القرارات التي تتخذها من خلف المحيط، فالمراقب لجميع الحروب التي خاضتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية يلاحظ بما لا يدع مجلاً للشك أنها تمارس في هذه الحروب دور التابع الذي لا يملك خياراً مستقلاً في هذا الأمر، وقد ظهر ذلك جلياً في العدوان على العراق حيث كانت بريطانيا مع الدول التابعة للعرش البريطاني سابقاً أدواتٍ في يد واشنطن في هذا العدوان، وقبل ذلك في الحرب على يوغوسلافيا التي كان يُراد منها أصلاً كشف ظهر روسيا أمام “ناتو”.
ولكن ما يهمّنا فعلياً من هذا الأمر هو أن هذه الدولة لا تزال إلى الآن تتظاهر بأنها قوة وازنة في هذا العالم رغم أنها في نهاية المطاف لا تستطيع مطلقاً اتخاذ قرارات مصيرية مخالفة لواشنطن، سواء أكان ذلك من داخل حلف “ناتو”، التي هي عضو فيه، أم من خلال المنظومة، التي كانت حتى وقت قريب تابعة لها، وهي الاتحاد الأوروبي، الذي خرجت منه بإيعاز واضح من واشنطن في محاولة لمنع هذا الاتحاد من الاستقلال بقراره عن الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة فيما يخص العلاقة مع روسيا والصين.
غير أن هذه التبعية للقرار الصادر من خلف المحيط بدت واضحة من خلال الاستفزازات المتكررة التي قامت بها لندن ضد موسكو في السنوات الأخيرة، حيث بدأ هذا الاستفزاز بقضية العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال، الذي اختلقت فيه الاستخبارات البريطانية سيناريوهات متعدّدة اتهمت من خلالها روسيا بتسميمه دون أن تقدّم دليلاً منطقياً واضحاً على صحة ادّعائها، فضلاً عن محاولة ابتزاز دول الاتحاد الأوروبي عبر تخييرها بين علاقات وثيقة مع بريطانيا بعد انسحابها من الاتحاد وعلاقات مع روسيا، مع كل ما يحمله هذا التخيير من مخاطر العودة بأوروبا إلى صفحة الحروب الدينية والعرقية التي طوتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولكن استخدام بريطانيا مؤخراً رأس حربة لاستهداف روسيا في حادثتين خلال شهر واحد تقريباً، أولاهما فيما يخص اتهام لندن موسكو بالوقوف وراء حادثة الهبوط الاضطراري للطائرة الإيرلندية في مطار مينسك في قضية لم تحدث أصلاً على أرضها وجميع معطياتها جاءت من مطارات الدول الغربية، وثانيهما خرق المدمّرة البريطانية للمياه الإقليمية لروسيا في القرم وتأكيد موسكو أن هذا القرار تم اتخاذه فعلياً من خلف المحيط في واشنطن، وأنها تفضّل التعامل مع الأصيل وليس مع الوكيل، كل ذلك يؤكد أن هذه الدولة لم تعُد تملك قرارها حيث أصبحت تابعة لواشنطن وتعمل على تنفيذ سياساتها في أوروبا حتى بعد أن أصبحت خارج الاتحاد الأوروبي فعلياً، فما الذي تبقّى فعلياً من عظمة بريطانيا؟.
طلال ياسر الزعبي