ثقافةصحيفة البعث

“مائة عام من العزلة”.. أيقونة الواقعية السحرية وتحويل الخيال إلى واقع

علي اليوسف

يقول غابرييل غارسيا ماركيز، في تأملات نشرتها صحيفة “إل إسبكتادور” الكولومبية، إن كاتب الواقعية السحرية هو ساحر في المقام الأوّل قبل أن يكون كاتباً.

من أجل ذلك اعتمد ماركيز في روايته “مائة عام من العزلة” على حكايات شعبية خرافية وأساطير وقصص خيالية تشبه حكايات “ألف ليلة وليلة”، ليس من أجل أن يثبت أنه كاتب ممسوس بالسحر، أو أنه مجرد ساحر خارق، وإنما لينتقد واقع أميركا اللاتينية، وكولومبيا على وجه التحديد، ويطرح الأسئلة حول طبيعة التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ضربت القارة اللاتينية في فترة ما بعد الاستعمار.

تندرج رواية “مائة عام من العزلة” تحت مسمى أدب الواقعية السحرية، وهي مدرسة أدبية تقوم نصوصها على المزج بين عنصري الخيال والواقع، دون الابتعاد عن الأسلوب الموضوعي في السرية القصصية؛ وهي ليست مدرسة أدبية بقدر ما هي طريقة للتساؤل حول طبيعة الواقع ونقده. وفي أدب الواقعية السحرية، يُغلف النص بالسحر بطريقة لا تشعر القارئ بانفعالات الراوي وأفكاره فحسب، وإنما بطريقة توحي أن الراوي يروي القصة للقارئ شفوياً، ويكلّمه من بين السطور.

تميز ماركيز بعبقرية أسلوبه ككاتب، وموهبته في تناول الأفكار السياسية؛ ولا يمكن لأحد أن ينكر فضله في إعادة تشكيله للأدب وصياغته في كولومبيا بشكل خاص، وأميركا اللاتينية بشكل عام. كتب روايته خلال فترة تواجده في المكسيك، وقد اعتبرت واحدة من أهم الأعمال في تاريخ الأدب الإسباني، وهي تجمع قصصاً متقطعة وأخرى متواترة، يرويها جيل عن جيل، في لبوس شخصيات موغلة في غرائبيتها وحدّة طباعها المنغمسة في الخرافة والسحر.

تتناول رواية “مائة عام من العزلة”، المترجمة لـ 46 لغة، واقعاً متخيّلاً تعيش فيه عائلة بوينديا حقبة تمتد إلى مائة عام، وعلى مدى ستة أجيال، ضمن قرية من نسج خيال ماركيز، تدعى ماكوندو، عاكسة صورة الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي في أميركا اللاتينية، وخصوصا بلاد الكاتب، كولومبيا، لا بل أثبت الواقع والتاريخ، وكذلك التفاعل الوجداني مع الرواية، أن ماكوندو، البلدة المتخيلة، تشبه شعوب ودول العالم الثالث إلى حد التماهي.

وتكاد لا تنفصل عوالم ماركيز التي نسجها في روايته عن عالمه الخاص المغلّف بالسحر، والذي يتصل فيه الخيال بالواقع إلى أن يشكل هوية مكان وأحداث وشخصيات لا يمكن للقارئ أن يشكك في حقيقة وجودها، رغم علمه بأنها من صناعة “طفل حكّاء اسمه غابو” كما يحلو لأصدقائه مناداته.

ليس لـ “مائة عام من العزلة” قصة واحدة وواضحة، تُروى أو تلخص أو تُختصر، فهي مجموعة خيوط تتشابك، وتتلون، وتنمو، وتطول وتقصر، لتشكل نسيجاً روائياً فاتناً، لكنها لا تنهك مقتفي أثرها إلا بالمزيد من الإمتاع، ذلك أن نسّاجها، غابرييل غارسيا ماركيز، يتدخل في اللحظة المناسبة مثل ساحر حقيقي، ليفك لغزاً أو يزيد من الأمر التباساً وغرابة في بناء سردي يحبس الأنفاس ويخطف الألباب.

في الرواية، يحاكي ماركيز قصة قرية ماكوندو المنعزلة، عن طريق سرد قصة حياة عدّة أجيال متعاقبة من عائلة بوينديا على امتداد عشرة عقود من الزمن. وتنتقل العائلة من حالة براءة الطفولة مروراً بكل مراحل الرجولة والأنوثة والانحطاط، حتى تجرف ريح قوية في نهاية الرواية آخر فرد من أفراد العائلة بسبب خطيئة زواج غير مرغوب فيه.

عالج ماركيز القصة معالجة ساخرة، مع وجود بعض التلميحات الهزلية التي تتراوح بين العطف والقسوة. ويقول النقّاد عن الرواية “إن ماكوندو قرية وهمية أنتجتها مخيلة ماركيز، لكنها في الحقيقة ليست سوى تعبير عن أي بقعة من بقع كولومبيا، أو أميركا اللاتينية، أو أي بقعة من بقاع العالم الثالث، وهي رمز لأي جماعة صغيرة واقعة تحت رحمة قوى تاريخية خارج نطاق سيطرتها وفهمها وإدراكها”.

تتشابك أحداث الرواية وتتداخل بطريقة تُربك القارئ، وتدور الحكاية حول الأب الرمز، خوسيه آركاديو بوينديا، الذي قتل أفضل صديق له دفاعاً عن الشرف والرجولة، ما اضطره إلى الرحيل وتأسيس قرية جديدة أسماها ماكوندو. بنى هو وزوجته، أورسولا، بيتاً، وكان لهما ثلاثة أطفال: آركاديو وأوريليانو وأماراتنا؛ وبمرور الأيام، أصبح لديهم عدد كبير من الأحفاد، وكان هناك هلع في العائلة من أن خطيئة ما سوف تحدث ينتهي على إثرها نسل الأسرة. كان الغجر يزورون القرية، ومن بينهم الغجري ميلكيادس الذي جلب معه للقرية أشياء غريبة، ورحل مُخلّفاً مجموعة من الأوراق تُسجِّل تاريخ القرية منذ بدايتها حتّى فنائها.

بعد ذلك، تستمر الأحداث بتواتر عذب ومعقّد، إلى أن يأتي القرية غرباء كُثر، ممن يُمثلون عادة سبباً للتشاؤم وسوء الطالع. وتتدهور أوضاع “ماكوندو” بعد موت ثلاثة آلاف عامل من العمّال المضربين في مذبحة على مقربة من محطة سكة الحديد. وفي نهاية الرواية، وكما هو مُدوّن في أوراق الغجري “ميلكيادس”، يلد آخر فرد من أفراد الأسرة طفلاً بذيل خنزير، إثر علاقة غير شرعية، تأتي بعدها ريح عاتية تدمّر القرية عن بكرة أبيها.

كل هذه العوالم يرويها ماركيز في واقعية سحرية يعد مؤسسها، فلا شيء غير الإدهاش في خطابه السردي، ولا حدث يمر دون إقناع على الرغم من غرابة الشخصيات والأحداث؛ ففي حضرة عوالم ماركيز الروائية، يتحول القارئ إلى طفل كبير يستمع إلى حكايات جدته، ويصدق ما تقوله، ولكن بتفكير أعمق واندهاش أكثر.

محورا الرواية هما عائلتان، عائلة بوينديا وعائلة آل إيغواران، ينتهي بهما المطاف بولادة طفل بذيل خنزير، وذلك تحت وقع قوة التزاوج الذاتي. أورسولا إيغواران، المتزوجة حديثاً بخوسيه أركاديو بوينديا، ترفض أن يستهلك الزواج خوفاً من أن يولد من جديد مولود بذيل، ما يدفع برودينشيو أغيلار إلى تعنيف خوسيه أركاديو، والتقليل من شأنه، بينما ينتهي الأمر بالنسبة إلى خوسيه أركاديو إلى قتله بعد استفزازه؛ لكن القتيل يظهر باستمرار مثل أطياف في تراجيديا إغريقية يسير فيها أبطالها نحو مصائرهم وهم يظنون أنهم يهربون منها. يصل خوسيه أركاديو إلى قرية بالكاد تضم عشرين منزلاً بنيت من الطين والقصب على ضفة النهر، هارباً من شبح الميت، ويبقى هناك للعيش فيها. تلك القرية تدعى ماكوندو التي تشكل المسرح السحري لأحداث هذه الرواية، وغيرها من أعمال المؤلف السابقة لرواية “مائة عام من العزلة”.

يُعد النظر للبيئة والتاريخ الشخصي المحيط بالكاتب – أيّاً كان – أمراً مهما لمعرفة السياق الذي تشكلت فيه أفكاره. ومن هذه النقطة، تأثّرت نصوص ماركيز بالبيئة المحيطة به، فقد ولد غابو، الطفل الصغير في بلدة آراكاتاكا في كولومبيا، وعاش طفولته المبكرة في تلك البلدة الفقيرة، والنائية، أما بقية حياته فعاشها متنقلاً بين العوالم الجغرافية تارة، والعوالم النصية تارة أخرى. في سنوات حياته الأولى، لم يعش غارسيا ماركيز برفقة والديه وإخوته، إذ كان يقيم مع جدّه العقيد نيكولاس ماركيز ميخِيَّا، وجدّته ترانكيلينا كوتيس، في بيت العائلة الكبير.. هناك سمع ماركيز الكثير من القصص والحكايات، وبدأ أول خيوط السرد القصصي يُنسج في عقله، مكوّناً نمطاً قوياً وممتعاً للحكاية، يُحاكي نمط الحكاية الذي يتبعه جدّه. يقول ماركيز: “ليست الذكرى الأكثر ديمومة وحيوية عندي هي ذكرى الناس، بل هي ذكرى البيت الحقيقي في آراكاتاكا الذي عشت فيه مع الجدين”.

إن نمط الحكاية الذي يتبعه ماركيز يشبه إلى حد كبير نمط قصّة ما قبل النوم، تلك القصص الخيالية التي تحكيها الجدّات بأسلوب قصصي يأخذ معه الأطفال للنوم، والفرق بين طريقة سرده وطريقة سرد الجدّات أن ماركيز لا يقودنا عن طريق الحكاية إلى النوم، وإنما يُقودنا نحو المتعة، حيث يسرد القصة بأسلوب شيق؛ وفي أتون النّص فإنه يأخذ بيد القارئ من يديه ماشياً معه في طرقات السرد خطوة بخطوة، خوفاً عليه من الضياع ربما؛ وفي كلّ مطبٍّ أو عقبة يواجهها القارئ بين السطور، يظهر ماركيز، مزيلاً تلك العقبات بصورة مؤقتة، من أجل زيادة الإثارة، ورفع مستوى التشويق إلى أعلى درجاته.

يدرك القارئ للرواية أن أمامه عملاً عجائبياً مشحوناً بالتفاصيل والشخصيات الأسطورية، والتي تحمل أسماء متشابهة ومتقاربة إلى حد بعيد؛ شخصيات تحمل جينات الجدّ بوينديا، وتعيش في رقعة جغرافية واحدة، وينتظر أجيالها مصيراً واحداً.. هو الفناء. في سرده للحكاية، يقول أصدقاؤه المقربين إن ماركيز استعار شخصيتي جدّه وجدته الواقعيتين، بالإضافة إلى بعض المشاهد والمواقف والظروف السياسية والاجتماعية التي عاصرها في بلدته القديمة آراكاتاكا، وفي المكسيك وأوروبا، وأضفى عليها شيئاً من سحره الخاص. إن تلك الأشياء البسيطة والمهملة التي بدت غير ذات معنى في سنواته الأولى ولم يعرها اهتماماً، استخدمها فيما بعد باعتبارها من أهم التفاصيل التي تقوم عليها حكاياته.

إن سرد تفاصيل الشخصيات بدقّة، بالإضافة إلى التعبير عن موقفها الفكري والإنساني ونظرتها للحياة بصور مختلفة، يعدّ من ضمن القواعد الأساسية التي تقوم عليها سرديات ماركيز، فهو – كما يقول نقّاده – يصبح صديق الشخصية الروائية قبل أن يدوّنها على آلته الكاتبة، ويغوص فيها فكرياً وحياتياً، ومن ثم يكتبها بطريقة لا تخلو من المفاجآت. في البناء السردي لقصة “مائة عام من العزلة” استنطق ماركيز شخصياته، عرف تفاصيلها، عاداتها، مخاوفها، أحزانها، وبعد ذلك، نقل إلينا تجربتها، التي هي جزء من تجربته الذاتية، تلك التجربة التي يعرف تفاصيل تفاصيلها.

لهذا تعتبر هذه الرواية من أكثر الروايات زخماً بالتفاصيل الواقعية، والأسطورية، فهي موسوعة تضج بتاريخ كولومبيا الحقيقي، وتاريخ ماكوندو الوهمي المزيف. إنها تعج بالأغاني، والترانيم، والتعويذات، والسح، هي رواية تنقل لنا الواقع اللاتيني بكل أحزانه وأفراحه، حيواناته وأعشابه، طرائفه ومآسيه، تنقله لنا بقصص حبه الوهمية، وحقائقه الصادمة، خطاياه، وحروبه الدموية. إنها رواية التفاصيل العميقة، والوصف الدقيق المكثف.