الفلسفة الجمالية للمباني الحلبية
حلب- غالية خوجة
ما أهم ما يميّز سحر العمارة الحلبية؟ ما أسرارها وفلسفتها الحسيّة والروحية والوجدانية؟ وما أهم عوامل صناعة البعد الجمالي في العصر المملوكي، ولاسيما البنائي؟.
أجاب عن هذه الأسئلة وأكثر الباحث الأديب أحمد الغريب مدير قلعة حلب، في ندوة “تراث حلب العمراني في صور العهد المملوكي والعثماني”، التي أقامتها مديرية الثقافة في حلب والجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون، في المركز الثقافي العربي بالعزيزية.
واسترسل الغريب: حلب تشاطر مجد وعزة دمشق والقاهرة وبغداد، تعاقبت عليها أطوار الحضارات، وكانت عاصمة لأكثر من مملكة، الأمر الذي توّجها بعزة وفخار، فمن طريق الحرير إلى الممر السوري العظيم، إلى عاصمة يمحاض والحمدانيين وصولاً إلى العصر المملوكي، وهذا ما ساهم في ثرائها أثرياً وعمرانياً وجعلها في العصر الحديث عاصمة للثقافة الإسلامية، وأكد أن للبعد العمراني عمقه التأريخي وأثره العظيم الممتد لآلاف السنين، وعوامله الفنية والتكوينية والاجتماعية والثقافية والحضارية التي ضمّت العديد من المراحل والحقب والعصور، وما زال سيف الدولة الحمداني يقف في قلعتها وإلى يمينه أبو فراس الحمداني وإلى شماله المتنبي، بينما يردّد أبو حيان التوحيدي: “تميز هذا الفن بالرسوخ والشموخ، فهو عنصر من عناصر الحضارة والتاريخ الإنساني، يفهمه الناس جميعاً في الحاضر وينتقل إلى الناس في المستقبل، وهذا الفن مؤلف من شكل ومضمون، من فكر هو الحكمة وإبداع هو البلاغة”.
تأملات في الفن العمراني
وتابع المحاضر موضحاً: “لنوقف عجلة الزمان، ونتأمل نفحات الفن العمراني في العصر المملوكي الذي بدأ عام (1260م–1516م)، لنجد كيف تسابق حكام تلك الفترة في صناعة الجمال من خلال المنتج العمراني الديني الثقافي، الذي تميّز بطبيعته الخاصة الناتجة عن التباينات في الأشكال والتصاميم والانعكاس على الحواس لنكون أمام مشهد جمالي قائم على التوازن والإيقاع والنفحات الروحية ذات البعد الفلسفي”. وأضاف: “تبلورت شخصية العمارة في حلب في العصر المملوكي، وأصبحت رافداً ومعيناً للحضارات والفنون، وشهد هذا العصر حركة عمرانية دينية تميزت بشتّى أنواع الإبداع، وازدانت واجهات مبانيها ومآذنها ومحاريبها بصفوة الفن العمراني، الممتزج بروحانيات صانعه، ونزوعه إلى تحدي الخيال، وإضافة الزخارف الموشحة بثراء إبداعي يمكن اعتماده كمنهج فني وفكري جديد، ومدرسة صدّرت العديد من المفاهيم في فن العمارة والزخرفة التي شملت المساجد والقصور والمدارس والأضرحة، وتوزعت على كامل النسيج العمراني لمدينة حلب القديمة”.
وأشار الغريب إلى أنه لابد من التأمل الفني كوسيلة لإدراك البعد والبصيرة، ولابد من تأمله تأملاً عميقاً للكشف عن روعته وأبعاده الفنية والثقافية والجمالية، وأن رؤية الفن تتمّ بالبصيرة وليس بالبصر فقط، ويصبح المتأمل لهذه النفحات العمرانية الإسلامية كمن يرفع حجباً عن كنز مخفيّ، وهذا ما يؤكده جلال الدين الرومي: “إن المتأمل للفن الإسلامي بحاجة إلى بصيرة لكي يفهم ويتذوق”، لذلك قال: “الصورة الظاهرة إنما هي لكي تدرك الصورة الباطنة والصورة الباطنة تتشكّل لأجل إدراك صورة باطنية أخرى”.
زخارف تجريدية
وعن أهم التحولات الهندسية وأبعادها التجريدية، قال أحمد الغريب: تنوّعت زخارف المباني الدينية في العصر المملوكي ما بين نباتية وهندسية بلباس تجريدي بعيد عن التمثيل الروحي للأشكال، وظهرت العقيدة الإسلامية في الرسوم الزخرفية موشاة بنفحات القداسة والصوفية، وازدانت مداخل المساجد والمدارس وغيرها بمقرنصات غاية في الإبداع، مشبعة بروح الفن العمراني، ولاسيما زخارف المقرنصات والواجهات بتناسقها البديع ببعده الروحي والفلسفي الذي استمر في العهد العثماني، ومن هذه النماذج جامع البهرمية والعادلية والمدرسة الرضائية.
واختتمَ المحاضر ندوته التي رافقتها شاشة إلكترونية إيضاحية، وحضرتها عدة شخصيات رسمية وثقافية ومهتمة، بقوله: نفحات حلب بجمالها العمراني جديرة بأن تكون من أمهات المدن التاريخية المأهولة التي تشعرك وكأنك في متحف كبير مفتوح ينشدُ:
“لو أنصف العرب الأحرار نهضتهم/ لشيدوا لكِ في ساحاتها النُّصبا
لـو ألـف المـجد سفراً عن مفـاخـرة/ لراح يكتـب في عنـوانه حلــبـا”.