ذاكرة الأبواب تتساءل: من الطارق؟
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
تنتشر رائحة الأبواب الأثرية في حلب مع رائحة الذكريات الجميلة، وهي تتلفت حواليها لتكتشف ما تبقّى من الزمن المعتّق وهو يقرع على أحد الأبواب العتيقة القريبة من القلعة، أو ساحة التنانير، أو زقاق قسطل الحرامي، أو باب النصر، أو ساحة الملح، أو حي الجديدة الذي استعاد بعض ذكرياته مع الأبواب وملامحها الفنية العاكسة للماضي من خلال تشكيلات معاصرة.
عائلة بيئية بستائر طبيعية
الأبواب ومطارقها من المفردات الجمالية للعمارة التراثية العربية عموماً، والسورية خصوصاً، ومنها حلب، وتحديداً المدينة القديمة التي يلفتك فيها كل شيء، فترى البيوت بجدرانها الحجرية المرتفعة، بينما فتحاتها القليلة والصغيرة تطل من خلال العرائش والنباتات والورود الممتدة والمتلاصقة، وكأنها عائلة بيئية تنتمي لأسرة خضراء واحدة، تشكّل ستائرَ طبيعية وارفة لساكني البيوت ونسائها اللواتي ينظرن من أحد الشبابيك الخشبية المخرّمة المزخرفة ليعلَمْن: من الطارق؟
اعتادت البيوت على أبوابها المؤلفة من مصراع أو مصراعين كبيرين يتذكران أنهما لا يفتحان إلاّ لفارس ليدخل مع حصانه، أو لعائد من قافلة ليتسع له العبور مع جَمله، أو أثناء إقامة الأفراح والسهر في الليالي الملاح؛ ولأحد المصراعين باب صغير بمصراع واحد مخصص لأهل البيت وأقاربهم وأصدقائهم، وغالباً، ما يظل مفتوحاً مرحباً بالجميع، بعد الطرْق على الباب والاستئذان للدخول.
فنون مزينة بالآداب
ما السر بأنك كلما عبرت تلك الحارات القديمة تلمح آداب السير في الشوارع والأحياء والأزقة؟ آداب نبرة الصوت المنخفضة، وأنت تمشي بين الحجارة البازلتية السوداء والغرانيتية والحجارة الشهبائية الصلدة؟ آداب الطرْق على الباب الواقف، وكأنه لوحة فنية تحجب خصوصية من يدخلها، وترقب من يمر أمامها بابتسامة جميلة؟
ولو سألنا الأبواب عن أزمنتها، لأجابتنا: أجمل أزمنتي، وأجمل كل الأزمنة، عندما تسود المحبة والأمان والسلام بين الناس، لأنني اعتدت على ذلك منذ صنعني الحداد أو النجار، وزيّنني بلوحات من مسامير ونقوش وأشكال هندسية وزخرفية، وخصص “المطرقة” بأشكال فنية متنوعة، منها يد تقبض على كرة، يد عروس، يد منبسطة، رأس طير، حدوة حصان، مرساة، سهم، فراشة، حمامة، أسد، حيوان خرافي، كائن أسطوري، كف منقوشة بكلمات أو مزينة بخرزة زرقاء لإبعاد الحسد كطاقة سلبية شريرة، ويقال بأن إحدى مطارق الأبواب تسمى “يد فاطمة” تخليداً ذكرى وفاة الأميرة الأندلسية الكريمة.
ومهما تكن رموز ودلالات هذه المطارق إلاّ أنها تعتبر مجالاً فنياً انتقل من بساطته الأولى ووظيفته التنبيهية إلى تحولاته المرادفة لتطور المجتمع وفنياته، ما جعلها تكتسب حضوراً مزخرفاً، منقوشاً، مفرّغاً، غائراً، ممتداً مع أشكاله الهندسية والكتابية والحيوانية والنباتية والإنسانية.
لكن، لماذا أحياناً تكون مطرقتان لباب البيت؟
قد يجيبني أحد القراء: لأن الباب مؤلف من بابين، كبير وصغير؛ وقد تجيبني إحدى القارئات: لأن المطرقة الكبيرة خاصة بالرجال، بينما الصغيرة فخاصة بالنساء، وهناك مطرقة للأطفال، ومن الآداب أن يفتح رب الأسرة أو أحد الأبناء الباب للطارق المذكر، بينما تفتح ربة البيت أو إحدى بناتها للطارقة المؤنثة.
الأبواب القديمة ما زالت تحتفظ بجمالياتها المصنوعة من الخشب والحديد، أو الخشب المصفح بالنحاس أو البرونز أو الحديد، بينما مطارقها فتصنع غالباً من المعدن مثل الحديد والبرونز والنحاس، ليكون إيقاع الطرقات على الباب مسموعاً لأوسع مدى من البيت الحلبي الكبير، فينبّه مَنْ في الداخل إلى وجود شخص في الخارج.
وللواقف أمام باب خان الوزير أن يلاحظ الباب الصغير والباب الكبير والفنية المعمارية الباذخة.
أمّا الواقف أمام أحد أبواب الأزقة والأحياء القديمة، فستجذبه رائحة الورود، ورائحة النظافة، وقد يتساءل: لماذا باقة الورد موضوعة على باب هذا الدار؟
ستجيبه امرأة عجوز تمر، الآن، مصادفة: كنا نضع الورد على الباب عندما يكون أحد أفراد عائلتنا مريضاً، فيفهم سكان الحي، أو العابرون، أو الباعة الجوالون، أن المريض بحاجة للهدوء والصمت.
سيناريو لمفاهيم اجتماعية
المطارق وأبوابها ليست أشكالاً بصرية وتشكيلات فنية معمارية فقط، بل مفاهيم ذاتية واجتماعية تقدم لنا نصوصاً من الفلسفة والعلائق والمعتقدات والشعرية المنتسجة بأسلوب اجتماعي له آدابه وعاداته المهذبة وذوقه الرفيع في التعامل والفن على حد سواء.
وإضافة لذلك، تحكي لنا عن دلالاتها الأخرى الرمزية التي تستقبلك بيد المطرقة وكأنها تصافحك بترحاب وحنان، بينما تطل المطرقة بهيئة شمس أو قمر أو نجوم أو كواكب لتدل على ثقافة الساكنين المنعكسة أيضاً من خلال التمازج المتناسب بين شكل المطرقة والباب ورسوماته وزخارفه وحروفيته، وتظهر هذه الفروقات في المفردات العمرانية بين أبواب البيوت والخانات والمساجد والكنائس والجوامع والمحلات التجارية وأبواب القلعة وأبواب حلب الشهيرة المعروفة مثل باب أنطاكية وباب النصر وباب الحديد وباب قنسرين.
ولعل المتجول في مدينة حلب القديمة يتساءل: لماذا أبواب بيوت الأحياء والأزقة غير متقابلة؟
من البديهيات الذوقية أن تكون هناك مسافة بين باب بيت وآخر، فلا يتقابل البابان احتراماً لخصوصية سكان كل بيت، وهي عادة مألوفة لدى الجيران، إضافة إلى عادة غضّ البصر والنظر التي يتقنها أهل الحي وأقاربهم ومعارفهم والعابرون بين الأزقة والأحياء.
مفاتيح الذاكرة
لعلنا نعبر الآن من ساحة فرحات إلى حي الجديدة ونحن نردد مع المتنبي: “يا منازل لك في القلب منازل”، متأملين الأفراح التي كانت، والآلام التي زالت، مستذكرين أجداد البشرية الذين عاشوا بين الجبال والكهوف، وكيف استخدموا الحجارة الصلدة لإغلاق مساكنهم الحجرية، ثم كيف تطورت الأبواب لتصبح أرق وأشف وأكثر معاصرة في زمن التكنولوجيا، معتمدة على كلمة السر أو البصمة الصوتية والعينية وبصمة الوجه أو الكلمة السحرية التي حولت “افتح يا سمسم” من خيال إلى واقع، مما جعل للباب جرساً كهربائياً برنين موسيقي، وجعل الباب أكثر شغفاً وفناً وحنيناً، لا سيما لأولئك الذين دمر الإرهابيون بيوتهم، ولم يحتفظوا بغير مفاتيح الأبواب وذكرياتهم وهي تتساءل: من الطارق؟