فكّ ألغاز وطلاسم قوشجي في جلسة “إصدار”
أقلّه القطار السريع من بروكسل إلى جنيف وإلى عالم الرواية التي أبدع بخطوطها ووصلت إلى أماكن بعيدة في العالم، فخلال سبع سنوات كتب الطبيب والباحث العلمي والمترجم د. نبيل قوشجي ثلاث روايات تميّزت، كما ذكر الإعلامي ملهم الصالح في جلسة إصدار التي أقيمت في المركز الثقافي في كفرسوسة، بالغرائبية والتكرار بغية التأكيد والكثير من التقنيات، فمن “رحلة إلى المريخ” إلى “أنا أعرف من قتلني” إلى “وادي السيلكون”، وهي الجزء الثاني من “أنا أعرف من قتلني” ليكتشف القارئ من القاتل؟. وبدأت الجلسة بعرض فيلم توثيقي عن حياة د. قوشجي ومسيرته العلمية والحياتية وتأثره ببيئته التربوية والثقافية، وخاصة والده القاضي العسكري الشاعر نادر قوشجي.
التنبيه بالتكرار
حوار الصالح مع الكاتب قوشجي حول التقنيات الروائية انطلق من عالم الرواية الذي يحتاج إلى جهد بحثي يدمج مع الصياغات والحكاية القضايا التي طرحها الكاتب، فرغم قربه من الشعر إلا أنه دخل عالم الرواية دون تدرجات، فقدّم “رحلة إلى المريخ” التي توحي بأنها رواية من الخيال العلمي إلا أنها تذهب منحى سبر النفس البشرية مع شيء من الخيال. ومن هنا توقف الصالح عند الغلاف الخارجي، فالصورة ليست للمريخ وإنما هي إشارات تدوّن للقارئ بعض الجمل الواردة بالرواية التي تحمل دلالات معينة ومعلومات موثقة لينتبه إليها، وكأنه يطلب منه القراءة أكثر من مرة بتكرار الجمل ذاتها.
رواية “أنا أعرف من قتلني” كانت أكثر غموضاً وغرابة وعمقاً بعالم الرواية، إذ اعتمد بالسرد على الراوي العليم -ضمير الغائب- كمنحى عام للرواية وترك مساحة كبيرة للشخصيات بتحريك الأحداث والانتقالات والمنولوجات، ومن ثم العودة إلى الراوي العليم.
فعقب د. قوشجي: الراوي العليم لأنني أعتمد على الفهرس مثل البحث العلمي، فأكتب الفصل الأول ثم الفصل الأخير وأعرف ماذا يحدث بينهما.
ويحمل الفهرس دلالات -كما ذكر الصالح- فالرواية تتألف من ثمانية وثلاثين فصلاً، كل فصل له عنوان مختلف من حيث الشكل من كلمة مثل الجثة/ التحقيق/ العمل/ النهاية/ إلى جملة: المغلف السادس اللوحات الجدارية/ رسالة إلى القارئ من الراوي/ فحص الجثة في المكان.
غياب الأسماء
كما استُبدلت الأسماء بالصفات، فالرواية تعتمد على صفات الشخصيات وتدور حول الشخصيات الرئيسية وهم الأصدقاء منذ أيام الدراسة، الذين عادوا ثانية ليؤلفوا فريقاً واحداً بالعمل: المحقق والطبيب الشرعي والقاضي الشخص الذي قُتل، إضافة إلى الشخصيات المساندة. وتابع: تطرقت إلى الثالوث “الجنس– الدين– السياسة” والملفت هو استخدامك الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية الأكثر استخداماً في اللغة العربية؟.
فبيّن قوشجي أن اختيار عناوين الفهرس يعود إلى التكثيف والاختزال لإيهام القارئ بأمر ما، أما الجمل الاسمية فلأنني أخبر القارئ عن الأحداث اللاحقة بضمير المتكلم -الراوي الذاتي- أحياناً، وتطرقت إلى الثالوث بأسلوب لا يخدش الحياء ومقبول وبشكل منطقي.
المذكرات وخط اليد
الخطوط أيضاً كانت ذات دلالة، ففي الرواية ثلاثة خطوط، خط العناوين الأسود الكبير وخط الكمبيوتر للسرد، والملفت مذكرات القاضي التي كُتبت بخط اليد وباللون الأزرق مع التاريخ: “لا أدري من أين أبدأ لكنني وكما وعدت سأترك لنفسي أن تكتب دون أن أقاطعها ودون أن أشطب أية كلمة مما أكتب”.
وكانت علامات الترقيم مدار جدل مع الكاتب الذي اكتفى باستخدام ثلاث نقاط متتالية.
كلّ هذه الاستفسارات التي تساءل عنها الصالح كانت نوعاً من التحدي -كما ذكر قوشجي-، فلابد من كتابة المذكرات حتى تكون مقنعة بخط اليد وبلون مغاير فبحث في برامج الكمبيوتر عن خطوط الكتابة باليد، أما استخدام متتالية النقاط (ثلاث نقاط) فهي موجودة في اللغة العربية وتُدعى نقاط الإضمار وتستخدم لحذف شيء لم يقل، لكن الكاتب أوضح أنه اعتمد عليها لجذب القارئ وإشراكه بالتفكير والبحث عن القاتل.
ثم تطرق الحوار إلى تقنية تكثيف الزمن، فزمن الرواية يتمّ خلال أسبوع واحد، وإلى التقنيات التكنولوجية بشرح التسجيل المصوّر والاستعانة بخبير الأبراج وعلم الشطرنج واستخدام المسدس المطبوع: “تابع العمل وفك كل قطعة من المسدس فإذا به أمام مسدس حقيقي من طراز براوننغ البلجيكي لكنه مصنوع بالكامل من اللدائن”، واستكمال اللغز من خلال اللوحات الجدارية.
وتأتي الخاتمة بعد استفزاز القارئ بأشياء غامضة تتعلق بشخصية القاضي الشريف المحاط بكثير من الفساد، ويكمل المحقق الاستفزاز بالتحقيق بجعل المشتبه بهم يعترفون بجرائم صغيرة ليبعدوا الشبهة عن أنفسهم بالقتل، كما في تحقيقه مع مدبرة المنزل والسائق، لتأتي النهاية الصادمة: “لعلّ في آخر صفحات مذكرات القاضي ما يوضح هذه النقطة”.
الغرفة الصفراء
ربما نعرف من القاتل في الجزء الثاني برواية “وادي السيلكون” التي أطلق عليها الصالح الفكر التركيبي، “بعد أشهر من إغلاق ملف القاضي الذي لا وارث له، طُرح المنزل الفاره للبيع واشتراه طبيب مغمور لكنه شديد الطموح، في الصفحات التالية ستقرأ قصته في المنزل الذي سبق وأن عرفته وتجوّلت به على الورق لكنك ستدرك أنك لم تكتشف في ذلك الوقت كل أسرار المنزل والقاضي”، فنستدرك أن الكاتب يأخذنا إلى عوالم سلسلة من الرسائل والألغاز، واستمرار الخط الأزرق يعني استمرار الجرائم والفساد.
وتوقف الصالح عند استشراف الكاتب وباء كورونا في زمن الرواية 2019 في الغرفة الصفراء وتحكم العالم بالأوبئة وزيادة نسبة التوحد: “كل شيء يخطّط له لاشيء يترك للمصادفة”، ويبدو تباطؤ إيقاع الراوي العليم وكسر الجمود بالمنولوجات وذكر طائر “الهامة” الخرافي، لتنتهي الرواية بإقفال التحقيق برمزية توحي بقراءات متعدّدة: “بل سأوصي بعد أن أقفل التحقيق في هذه القضية بأن يهدم المنزل من أساسه”.
ملده شويكاني