دراساتصحيفة البعث

الرأي العام يغيب عن السياسة الخارجية الأمريكية

ريا خوري

لكلّ دولة من دول العالم منهجها وأسلوبها في الحكم، ولو بحثنا في منهج وطبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية لوجدناه يختلف عن طبيعة النظام السياسي في أي دولة من دول الغرب الأوروبي.

في الغرب الأوروبي يختلفُ مفهوم السياسة الخارجية عن المفهوم الأمريكي. في بعض دول أوروبا الغربية، وخاصة بريطانيا، هناك دور قويّ ومؤثر من خارج دائرة السلطة والحكم، حيث يوجد رأي عام امتلك معرفة مميزة بالسياسة الخارجية الدولية، بحكم انتمائه إلى أحزاب وقوى سياسية شكَّلت له طوال سنوات عضويته بها مواقف وآراء محدّدة محكوم بها. وقد يختلف الوضع من دولة أوربية لدولة أخرى بحكم انتشار قوى ونشطاء فاعلين بشكل لافت لهم تأثير في صنع السياسة الدولية الخارجية. في هذا المسار وبالنسبة لصناعة السياسة الدولية الخارجية في دول العالم بشكل عام، تمتلك دول عديدة  إرادتها الوطنية كاملة في صنع سياستها الخارجية، لكن ضمن هذا المسار يوجد العديد من الدول التي تخضع للقوى الكبرى نتيجة احتياجها لها في تأمين متطلباتها لضمان بقائها، أو لحماية أمنها القومي.

في الولايات المتحدة يختلف الوضع اختلافاً كبيراً من حيث طبيعة القوى المسموح لها بأن تكون شريكاً في صناعة السياسة الخارجية، فهناك قاعدة لم تتغيّر خلال عهود الرؤساء الأمريكيين والإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهي: “أن الاستمرارية في السياسة الدولية الخارجية أكبر وأقوى من التغيير البنيوي. وإذا حدث أن أدخلت تغييرات مهمّة تتطلبها ظروف خاصة تؤدي إليها، فإن المتغيّرات والمسارات المتفرعة عنها لا تتطرق إلى ثوابت رئيسية في السياسة الدولية الخارجية، وتكون نابعة أصلاً من فلسفة النظام السياسي الأمريكي، مثل فكر الهيمنة والسيطرة الأمريكية على العالم وهي ترتكز على فائض القوة والجبروت العسكري”. هذه الرؤية تستند بالأساس إلى تراث فكري وفلسفي يرجع إلى بدايات قيام الدولة على يد الآباء المؤسّسين من “البروتستانت” الذين خاضوا حروباً دموية تجاوز عدد ضحاياها المئة مليون من الهنود الحمر. والسؤال من المسؤول عن اتخاذ القرارات في السياسة الدولية الخارجية الأمريكية؟.

من المفروض أن الرئيس هو المسؤول الأول منذ بدء ولايته، ولكن الدستور ينصّ على أن يكون الكونغرس شريكاً رئيسياً في صنع السياسة الخارجية. وبالطبع هذه القاعدة الثابتة قد أصابها الوهن والضعف في بعض العهود نتيجة أداء الرئيس في معالجته لقضية داخلية، أو جراء وجود أزمة خارجية تمثل تحدياً للأمن القومي الأمريكي، عندئذ يجد الكونغرس أن هذا الوضع يشجّعه على توسيع صلاحياته واتخاذ قرارات أوسع وأشمل ليزيد من مساحة سلطته في السياسة الخارجية على حساب الرئيس “السلطة السياسية الأولى”، والعكس صحيح.

وفي حقيقة الأمر، وكما هو معلوم فإن النظام السياسي في الولايات المتحدة يسمح لمجموعة قوى أخرى بأن تلعب أدواراً مؤثرة ومهمّة في قرار السياسة الخارجية، منها جماعات المصالح والكارتيلات الكبرى ومجمّعات الصناعات الحربية، إضافة إلى تنظيمات غير حكومية، سواء في صورة نقابات أو اتحادات أو جماعات تمثل أصحاب مهن معينة كالمحامين والصحافيين، أو نشاطات أخرى مثل حملة أفكار متشدّدة، كجماعة الدفاع عن حق المواطن في حمل السلاح.. وما إلى ذلك.

جميع هذه الجماعات تمارس نشاطها من خلال عملها المنظم ضغوطاً على أعضاء الكونغرس من ديمقراطيين وجمهوريين، لكي لا يتمّ اتخاذ قرارات مخالفة لمبادئ هذه الجماعات مهما كان، وهناك بالطبع قوى الضغط غير المنظورة، وقوى ضغط يمكنها أن تعبّر عن مصالح قوى داخلية في الولايات المتحدة، أو دول أجنبية يسمح لها النظام السياسي في الولايات المتحدة بممارسة ضغوط لحسابها، كاللوبي الصهيوني (إيباك)، يُضاف إلى ذلك أدوار مراكز الفكر السياسي، ووسائل الإعلام، والرأي العام. بمعنى أن السياسة الدولية الخارجية للولايات المتحدة، مهما كانت توجهات الرئيس في تحديدها، إلا أنه يظلّ دائماً متأثراً بهذه الضغوط لا محال.

ومع وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، بدا أن الوضع قد يختلف كلياً إلى حدّ ما، حيث صارت هناك دوافع عديدة لمراجعة توجّهات السياسة الخارجية التي قام بها سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب، والملاحظ أن هناك محاولة للقيام بمراجعة ما مضى من السياسة الخارجية الأمريكية نتيجة التغييرات السياسية والاقتصادية في العالم، وتبدّل مراكز الصراع والنفوذ في بعض المناطق خلال السنوات السابقة.