رزنامة حلب
د. نضال الصالح
رزنامة كما يلفظها الحلبيون، وروز نامه كما هي في أصلها الفارسي، وكما هو واضح أنّها مركّبة من كلمتين: “روز” التي تعني “يوم”، و”نامه” التي تعني كتاب، أي كتاب اليوم، أو التقويم بالعربية. وفي المعجم الوسيط أنّ الكلمة مولدة، وتعني: “كُتَيِّبٌ يتضمن معرفَة الأَيام والشهور وطلوع الشَّمس والقمر على مدار السنة”.
أمّا “رزنامة حلب”، فهو كتاب للشاعر والباحث الحلبيّ سمير طحّان المولود في “البصيرة”، التابعة لدير الزور، لأبوين من حلب، سنة سبع وأربعين وتسعمئة وألف، ودرس في معهد الأرض المقدّسة في حلب حتى حصوله على الشهادة الثانوية، وسنة سبعين وتسعمئة وألف، وبينما كان يزرع لغماً خلال تأديته الخدمة الإلزامية انفجر اللغم، ففقدَ يديه وعينيه. صدر له عدد من المجموعات الشعرية.
يمتد كتاب “رزنامة حلب: ذاكرة شعبية” على سبعمئة وستين صفحة من القطع الكبير، تبدأ بشكريْن، هائل وخاص حسب المؤلف، فإهداء، ثم صلاة جدي، وطقس حلب القمر والنجوم، ثم يمضي المؤلف، عبر اثني عشر متناً، إلى تدوين ما يعني الذاكرة الشعبية الحلبية حول كلّ شهر من شهور السنة، ثم ينتهي الكتاب بنحو عشر صفحات تتوزع بين: صلاة ستي، وإهداء ختامي، وثبت بالأعمال المطبوعة على نفقة المؤلف.
يضبط المتون الاثني عشر إيقاع بنائي واحد، يبدأ باسم الشهر، فالأمثال الشعبية التي تتضمن الإشارة إليه أو الإحالة عليه، فغير حكاية ترتبط بهذه الإشارة أو تلك الإحالة، ثم التعريف بشخصية أو أكثر ممّن عرفهم المؤلف عن قرب. وحرصاً منه على التوثيق لكلّ حكاية يذكر اسم راويها أو راويتها وتاريخ سماعه لكلّ حكاية.
وليس ما يميّز الكتاب، بل ما يجعل منه استثناء في المكتبة العربية، توثيقه الذاكرة الشعبية الحلبية فحسب، بل، أيضاً، تعريفه القارئ بقيم المجتمع الحلبي وتقاليده. وعلى الرغم من أنّ الكتاب، في الأغلب الأعمّ منه، مكتوب باللهجة الحلبية، لا بالفصحى، فإنّ القارئ، أيّ قارئ مهما تكن الجغرافية العربية التي ينتمي إليها، لا يجد عناء في فهم محكياته، بل في قراءته على نحو أدقّ قبل ذلك.
وإذا كان من الصواب وصف الكتاب بأنّه مستودع معرفة فيما يخصّ الذاكرة الشعبية الحلبية، وهو وصف صائب من دون ريب، فإنّه من الصواب أيضاً وصفه بأنّه شكل جديد من الكتابة التي تتأبى على التجنيس، فكما هو توثيق لهذه الذاكرة، هو، بآن، مجموعة من القصص المتفاوتة فيما بينها على غير مستوى، أو رواية عن حلب موزعة على وحدات سردية قصيرة لا تتجاوز سطرين أو ثلاثة أحياناً، وطويلة تتجاوز صفحتين أو ثلاثاً أحياناً أخرى، وهو في الحالين معاً مدوّنة باهرة عن مدينة باهرة هي حلب.
ولعلّ أبرز ما يميّز الكتاب أنّه ما مِن حكاية لا تتضمن حكمة، أو عبرة، أو دعوة غير مباشرة إلى قيمة إنسانية عالية، ثمّ أنّه ما مِن حكاية إلا وهي مروية بطريقة ساخرة، أو تتضمن سخرية لاذعة. وممّا يمكن التمثيل له حكاية “القاضي الجاهل” التي فصيحها ما يأتي:
أصدر أحد سلاطين بني عثمان قراراً بتعيين ثريّ قاضياً في حلب، وكان أمّياً، فقال للسلطان: “ولكني يا مولاي لا أفقه في القضاء”، فقال السلطان له: “تحكم لصالح مَن لديه شهود”. وعندما وصل القاضي إلى حلب استقبله مفتيها الذي وقف مرحباً به بلغة عربية فصيحة وبلاغة عالية، وتمنى أن يزدهر القضاء في عهده، وما إن انتهى المفتي من خطبته، حتى التفت القاضي إليه قائلاً: “عندك شهود؟”.