الانفجار الثقافي
ناظم مهنا
ليس اليوم كالأمس، ولا حداثة الألفية الثالثة كحداثة القرن الواحد والعشرين، فكل شيء تغيّر أو يكاد يتغيّر، ومن غير المحتّم أن هذا التغيّر هو نحو الأفضل، حتى وإن بدا التطور التقني يتقدم بسرعة الضوء! نحن اليوم في حالة انفجار ثقافي حجمه يسع الكرة الأرضية، ومع ذلك ليست الثقافة قوة فاعلة، وهذه من غرائب الأمور! في زمن “الانفجار الاتصالي” وهو زمن يفرض نفسه بقوة على العالم أجمع، ويحسّ بوجوده حتى الأكثر بدائية في أقاصي الأرض، وهذا أمر لا ينفع معه النكران أو التجاهل، بل يستحسن الاعتراف به وفهم آلياته، وابتكار طرق لمقاومة ما هو سلبي فيه، وفيه كثير من السلبيات والإيجابيات أيضاً، وبالتالي مقاومته مشروعة، والتفاعل معه أيضاً مشروع!.
من جهتي، لا أتمنى للحظة أن أبدو وكأنني أشتم الحاضر، ولا أعتقد أن العصر الذهبي للبشرية كان في الماضي! وأتباع هذا التيار موجودون في تاريخ الفكر الغربي والشرقي، ويعرفون في الثقافة الغربية، وفي اليهودية تحديداً، بـ “القابالا” وفي المسيحية بالـ”طهرانيين” أو الـ”بريتان”، وعندنا يعرفون بـ”السلفيين” أو الماضويين حتى وإن لم يكونوا متدينين! مثقفو الغرب من الجيل الأخير للقرن العشرين أعلنوا بشجاعة موت الحداثة قبل أن تموت فعلياً.
بدا مثقفونا المعاصرون كمن داهمتهم الموجة التشاؤمية أو العدمية وأوقعتهم في حيرة وتخبّط، لا يزالون يعانون منهما دون أن يحسم الأمر! وفي الآونة الأخيرة بدأ رجع الصدى يتردّد في أفياء بعض الأوساط ولكن بشكل هزلي أو هذياني! على شكل مصطلحات وتراكيب وعناوين كتب وأبحاث غامضة، مثل: “هدير السرد” و”أطياف السرد” أو “أشباح السرد”.. إلخ، ولكن لا بأس، ليس في الأمر كبير ضرر، إلا أنه تعبير عن التبعية الثقافية وانعدام الابتكار، ومحاكاة الضعيف للأقوى! علماً أن الحداثة كانت تتسم بالوضوح.
في زمن الانفجار الثقافي، لم يعد للمثقف الطليعي من وجود مؤثر، أو فاعلية حقيقية، ولم يعد هذا النمط من المثقفين يستأثر بالمعرفة أو يشكّل مرجعية وجاهية في الحقل النظري. نحن اليوم أمام مشهد فيه عدد لا يُحصى ممن يمتلكون كماً هائلاً من المعارف التخصصية، ولاسيما من الشبان الذين يتعاملون مع أدواتهم المعلوماتية بمهارة قد توازي أو تتفوق على مهارات الغربيين. لكن، للأسف هؤلاء مجرد متلقين للمعلومات وليسوا شركاء في صناعتها وفي توجيهها، فرغم كل ما يبدو من فوضى ناتجة عن هذا الانفجار الثقافي لا تزال الثقافة أداة خاضعة لقوى الهيمنة وعلاقات القوة (الامبريالية) القوية. منظرو هذه الثقافة السائدة لا يكترثون بالصدق ولا بالعدالة ولا بالمنظومات القيمية، بل يهزؤون بكل ما سبق، ويطلقون حكم الإعدام على ما يسمّونها (السرديات الكبرى والمكتملة أو الحكايات) أو “الميتا حكايات” ذات النسق الأسطوري الزائف! ويتلطى هؤلاء خلف النسبية أو ما هو جزئي، وعندهم كل شيء خاضع للشك وللايقين! هذه الوضعية الجديدة التي تدّعي الحياد والاكتفاء بالتوصيف هي في كثير من الأحيان تبريرية وذرائعية، وخاضعة لقوى النفوذ وللإعلام المسيطر! وهذا النمط الثقافي الذي يسود اليوم بقوة، يحتاج إلى نقد جارح، وقد خلّف الكثير من الشقاق وأوصل الفكر إلى حالة الجنون العام، وخرج منه المفكرون الإنسانويون منفيين خارج الفاعلية، وتعرض تراثهم التنويري إلى التجريح القاسي!.
إننا على امتداد عقدين أو أكثر، نعيش حالة انشقاقات كبرى حتى داخل المنظومة الواحدة، حتى صار الانفجار الثقافي، رديفاً للغموض والسطحية رغم كل أقنعته اللغوية الجذابة!.