دراساتصحيفة البعث

المشهد الفرنسي قبل الانتخابات الرئاسية 2022

محمد نادر العمري

 

بات المشهد السياسي في فرنسا تعتريه الكثير من الضبابية، ويسوده القلق والريبة بعد ما أفرزته الانتخابات المحلية من ضعف المشاركة، والانتكاسة التي وصفت بالقنبلة السياسية المدوية لأبرز مرشّحي الأحزاب الطامحين للفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة في مطلع 2022، العزوف عن الانتخابات، والمشاركة الضعيفة التي وصفت بالأكبر في تاريخ فرنسا الحديث والقديم، حتى إن المخاض الذي شهدته جمهورياتها الخمس بكل تفاصيله، “التنشئة والسقوط والاستعمار”، لم يعرف مثل هذه المقاطعة، وهو ما دفع وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانيان، وهو من المنتمين لحزب الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون، للقول على أبرز وسائل الإعلام الفرنسية بعد الانتخابات: “إن الشعب الفرنسي كان صامتاً في هذه الانتخابات، وعلينا أن ننصت جيداً لهذا الصمت المخيف”.

هذه النتائج أربكت القوى الصاعدة وغير التقليدية السياسية بعدما استشعرت ملامح الفوز من خلال استطلاعات الرأي، حيث تعرّض حزب ماكرون “الجمهورية للأمام”، و”التجمع الوطني” الذي يصنّف ضمن الأحزاب اليمينية الشعبوية بزعامة “ماري لوبن” لأكثر النكسات ضراوة، وبخاصة أن اليمين ويمين الوسط واليمين الشعبوي شهدت نمواً متزايداً خلال العقود السابقة، ليس في فرنسا فقط، بل على مستوى الجغرافيا السياسية الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بعد فوز دونالد ترامب.

مذاق الخسارة هذه والنكسة لا يتعلق فقط بالانتخابات المحلية، بل يؤسس للانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في مطلع عام 2022 لاختيار الرئيس الثاني عشر للجمهورية الفرنسية، فكل من ماكرون ولوبن يشكّلان أهم المتنافسين وأكثر المرشّحين حظوظاً قبل ما شهدته فرنسا من تغيير في المشهد السياسي في الانتخابات المحلية التي حصلت في شهري أيار وحزيران الماضيين هذا العام، وهو ما بات يطرح أسئلة استفهام كثيرة عن مستقبل الأحزاب السياسية الفرنسية؟ وهل هي بداية لعودة المشهد في أوروبا لصالح اليسار؟ وأي انقسام في السياسات الداخلية والخارجية التي ستشهدها فرنسا وأوروبا في حال حصول ذلك؟.

ربما الإجابة عن ذلك بشكل موضوعي أشارت إليه صحيفة “باديشه تاغبلات” العلمية الفرنسية في عددها الصادر في الأول من حزيران بالقول: “إن النظام الحزبي في فرنسا بات ركاماً من الحطام المتهالك، ولا أحد يعرف في أي اتجاه ستتطور السياسة في البلد المجاور، تحالفات الأحزاب التقليدية تتشكّل فقط بهدف منع لوبن وحزبها اليميني المتطرف من الفوز، ثمن هذه المعادلة هو هشاشة مضمون البرامج، كما أن موضوع الهجرة تتم مناقشته بطريقة عاطفية للغاية، لكن الناس لم يعودوا يعتقدون أن الأحزاب قادرة على تقديم الحلول، لقد سئم المواطنون من الديمقراطية، تماماً كما خاب أملهم من المعارك الأيديولوجية القديمة مثل الوعود الفارغة لطبقتهم السياسية، فمنذ حركة السترات الصفراء، وجد الرئيس ايمانويل ماكرون صعوبة في استعادة ثقة مواطنيه”.

هذه الإجابة تضعنا أمام ملاحظات هامة:

– إن السرعة الجنونية، والكثافة التأييدية التي شهدها يمين الوسط واليمين الشعبوي والمتطرف في فرنسا وأوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية، كانتا نتيجة التعبئة الإعلامية والأيديولوجية التي سعى مؤسسو هذه الأحزاب لضخها على شكل مخاوف في عقول العامة والمناصرين والرأي العام عموماً، ونتيجة ضعف وتراجع قدرة الأحزاب التقليدية التي تشرذمت نتيجة انقسامات داخلية وأيديولوجيات غير ديناميكية، لكن هذا المشهد قد يتحول لظاهرة لا تنحصر في التداول الانتخابي الفرنسي فقط، بل قد تتجاوزه مع عودة نشاط الليبرالية على مستوى النظام الدولي، وهو ما يدفع اليساريين التقليديين للبحث عن وجود لهم.

– صحيح أن المشاركة كانت ضعيفة ولم تتجاوز 36%، لكنها كانت فرصة للأحزاب التقليدية العتيدة، سواء المحافظة أو اليسارية، للتسويق لنجاحها في الانتخابات الإقليمية كمؤشر على تموقعها في السباق نحو الرئاسة المقررة العام المقبل، وهو ما أدى لزيادة غموض المشهد السياسي، فالشعار الذي طرحته الأحزاب التقليدية: “العالم القديم عاد”، وتبنته صحيفة “لوفيغارو” هو انتقام من الانتكاسة، والزلزال السياسي الذي أحدثته انتخابات 2017، وفوز ماكرون وحزبه بالانتخابات، حيث أكمل بالضربة القاضية حينها على ما تبقى من وجود للأحزاب الكلاسيكية.

يبقى السؤال الأكثر جدلاً: ما تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية القادمة؟ الجواب يكمن في نقطتين: النقطة الأولى: إن معظم الذين قاطعوا الانتخابات المحلية هم من فئة الشباب الذين تجاوزت نسبتهم من بين المقاطعين 91%، وهذا يعني أن هؤلاء بين ثلاثة خيارات: إما أن يقوم ماكرون وحزبه بتصحيح سياساته لإعادة نيل ثقتهم، أو أن يتمكن اليمين المتطرف المتمثّل بحزب لوبن من استقطابهم بشعارات تلامس مخاوفهم، أو أن يتمكن اليسار والمحافظون من العودة لطرح شعاراتهم القديمة بصيغة حديثة بعد تنظيم أنفسهم، والتخلص من صراعاتهم الشخصية، وقد نكون أمام خيار رابع يكمن في استمرار هذا الواقع المتمثّل بالعزلة السياسية للشارع عن المشاركة في الانتخابات، وهو ما لا يمكن فيه لأي من المرشّحين من تحقيق النصاب الدستوري للفوز، ودخول فرنسا الديمقراطية في فراغ رئاسي.

في حال الذهاب نحو السيناريو الأكثر تفاؤلاً وهو فوز أحد المرشّحين من أي من التيارات السابقة، فإن ذلك سيحرج الرئيس الفرنسي أمام تحركات الشارع، وأمام المعارضة في أي ملف يتم الخلاف عليه، كما أنه سيضع سمعة فرنسا بجمهوريتها الخامسة وثورة حرياتها على المحك على المستوى الدولي في حال اتهام أي من خصومها بعدم الشرعية.

فرنسا التي تعتبر أحد معالم القوة في أوروبا هي موقع سياسي غير مستقر داخلياً، وعلّمنا التاريخ أن لفرنسا على مر العصور تأثيرات خارجية لما يحصل داخلها، فهل ما أصاب الناخب الفرنسي في فرنسا من صمت وتغيير موازين القوى في المشهد الداخلي يصيب غيرها من الدول الأوروبية؟.