الجديـــد فــي خطـــاب الأســـــد
د. عبد اللطيف عمران
القائد الذي يواجه حروباً كالحرب على سورية في هذا الزمن، ويصمد ومن خلفه شعبه وأحرار العالم وشرفاؤه هذا الصمود، هو بلا شك قائد متميّز ليس فقط بشجاعته وكبريائه وإبائه، بل بسداد رأيه وعمق فكره وبعد نظره، وقديماً قال شاعر الحكمة والبطولة العربية: الرأي قبل شجاعة الشجعان /هو أول وهي المحلّ الثاني/ فإذا هما اجتمعا لنفس حرّة / بلغت من العلياء كل مكان… فكيف تكون الحال إذا كان (عالمنا غابة ونحن في وسطها وأخطر ما فيها الحرب النفسية)؟.
نعم، في هذا العالم (عالم الحروب الحديثة الهدف هو الإنسان قبل الأرض) ينبغي أن يكون المناضل مفكراً قبل أن يكون مواجهاً، وهذا ما يتطلب منه أن يبرع في حسابه لقدراته ولقدرات الآخرين محليّاً وإقليمياً ودولياً كي يتمكّن من دقة توجيه استراتيجيته في الزمان والمكان المناسبين، ويتبصّر في أبعاد وأدوات وزمان ومكان الخطط المضادة خاصة حين تكون الحرب طويلة ويكون على يقين من بداياتها أنها: (ليست حرباً أهلية بل حرب وجودية).
هكذا بدا القائد الأسد في خطاب القسم لولاية دستورية ثانية لمنصب رئاسة الجمهورية العربية السورية، بدا كما لاحظ عديد المتابعين والمترقّبين والمهتمين أنصاراً وخصوماً، كما لم يبدُ من قبل، وهذا طبيعي لأن الحال اليوم ليست كما هي من قبل، وهذا ما يُعرف في بلاغة الخطاب بـ (مقتضى الحال). دون أن يعني أبداً أن خطاب القسم لولاية دستورية ثانية هدفَ من بعيد أو قريب إلى إقامة قطيعة من نوع ما مع ما سبقه من كلام سيادته بحثاً يهدف إلى الجديد، وإن كان الجديد واضحاً متميزاً في الشكل (الصياغة)، وفي المضمون والهدف (مرحلة جديدة: تحرير ما تبقى من الأرض وزيادة الإنتاج)، وقد نبّه السيد الرئيس مرتين إلى هذه الظاهرة بقوله في الأولى: (نحن في خطاب قسم يُفترض أن نتحدث عن مرحلة مقبلة… لماذا نعود عشر سنوات إلى الخلف). وفي الثانية: (ونحن لا ننتظر خطاب قسم لكي نبدأ به المرحلة). وفي كلتا المرتين عِبر يُستنبط منها رؤى (مفرد رؤيا) يطول الحديث فيها.
والحقيقة لم يقل السيد الرئيس في هذه الحرب أو في غيرها كلمة لم تكن عصارة الأيام، وثمرة الواقع المرير أو الحلو، فالموضوعية والواقعية هي المنطلق نحو الوطنية والعروبية، لكن في خطاب القسم هذا جديد إعادة النظر فيه واستلهامه واجب وطني ومعرفي وإنساني.
فقد بدا السيد الرئيس وبدأ حكيماً حين التفت في مطلع كلمته إلى ما لا نذكر له مثيلاً سابقاً فخصّ الطلاب والمعلمين بالتحية: (كنت واحداً من تلاميذهم أقف اليوم أمامهم بكل إجلال واحترام). وفي هذا الفضاء المعرفي الوطني تظهر قيمة سرديته: (قدر سورية أن تمنح التاريخ ملاحم يقرأ صفحاتها كل من يريد أن يتزوّد بدروس الشرف والعزة والكرامة)، وكما تظهر إضافته لما سبق من حديث عن وحدة الشعب (نحن شعب غني بتنوّعه لكنه متجانس بقوامه… فالانتماء حالة حضارية إنسانية).
وكذلك الأمر في الجديد من قيم ومعانٍ وأفكار مضافة، غير مسبوقة في أغلب فقرات الخطاب الذي بُني بناء تتوافر فيه وحدتا النص العضوية والموضوعية، إضافة إلى أسلوب الإلقاء المتميّز فكانت بلاغة الكتابيّة قرين جمالية الشفاهيّة… فأنتَ في حال واحدة من الجِدّة والجمال والقوة حين تسمع، أو حين تقرأ الكلام الموجّه إلى من غُرر بهم، كلام المنتصر الفخور إلى المهزوم الذليل: (أنت مُستغَل من قِبل أعداء بلدك ضد أهلك، والثورة التي خدعوك بها هي وهم… أما الحريّة التي تتغنى بها فلن تجدها عند غربي امتهن أجداده تجارة الرقيق ومارس أحفاده التمييز العنصري، ولا عند عثماني دمّر أجداده منطقة بأكملها حضارياً وأخلاقياً…)، فهذا نص بكل ما في الظاهرة الأدبية من معنى، قامت سرديته على بلاغة الجملة الإنشائية، والجملة الخبرية، على السواء على نحو ما تجد في بعض العبارات التي هي بمثابة حِكم ينبغي أن يُصغي إليه الطلاب والمعلمون اللذين خصّهم السيد الرئيس بالتحية:
(وحدة معركة الدستور والوطن – قوة الشرعيّة الشعبية التي يمنحها الشعب للدولة – قوة الدولة لا تأتي إلّا من داخل الوطن – “إسرائيل” لم تربح الحرب باحتلال فلسطين بل عندما ظن بعض العرب أن المقاومة هي شطارة لا مبدأ، وقيادة من فندق بدلاً من مقرّ متقدم، وقتال من تلفاز بدلاً من خندق، وغدر شقيق بدلاً من مباغتة عدو…). هذا الكلام تضفي عليه معطيات “التحليل الاسلوبي” دلالات غنيّة.
إننا أمام جديد، جديد لا ينشئ قطيعة مع سابق له، لكنه تتويج وحصيلة وافرة لمسيرة ظافرة تفتح الآفاق لزيادة الإنتاج المادي والمعنوي، نظراً إلى ما يكتنزه من إضافات، جديد حقيقةً على مستوى الشكل، وعلى مستوى المضمون، وأجيالنا يحق لها أن تحظى باستلهامه وتتشرف بالتنشئة والوعي والانتماء إلى روحه.