كذب
عبد الكريم النّاعم
جلس صديقي وبدا عليه أنّه يحبس كلاماً في صدره، فبادرتُه بـ :”هات ما عندك”، حرّك رأسه يمنة ويسرَة وأغمض عينيه، وقال: “يا رجل ابتُلينا بجار شغلتُه أن يكذب، ويوم لا يكذب يغيّر اسمه، يجمعك به مجلس فما تدري أين الصحّ وأين الغلط فيما يقول، وهو في غاية الانسجام”!!.
قلت: “أين الغرابة، هناك دول عظمى لا تخجل من الكذب”؟!!.
قال: “تلك دول لها هدف، أمّا صاحبنا فهو لا يجني أيّة أرباح، ويبدو الكذب عنده حاجة نفسيّة”.
قلت: “البعض يعانون من أحوال نفسيّة معقّدة ومتشابكة، بعضها يرجع إلى الطفولة، وبعضها يعود إلى الطموحات المُخْفِقة، والمُلْتجئ للكذب يرمّم تلك الانهدامات والانهيارات في داخله”.
قاطعني: “هل ترى إنّ بعض الكذب يضرّ، وبعضه الآخر لا”؟!!.
قلت: “لا يوجد كذب نافع، إلاّ ما قيل عن الكذب الأبيض، وهو تملّص من مسائل صغيرة قد تنكّد عيش أهل البيت، أمّا الكذب في جوهره فهو شرّ كلّه، فثمّة من يكذب من أجل الإصلاح لا من أجل الإفساد، اسمعْ، هل تذكر (…)؟”.
قال: “كيف لا أذكره لقد كنّا نسكن مع أهله في قرية واحدة”.
قلت: “شاهدته في “باب السوق” في حمص عام 1950 ولم يمض على سكنانا المدينة إلاّ سنتان، وكان كلّ مَن يأتي من ذلك الريف يجئ إلينا، وعلينا أن نتكفّل، وكان يلبس ثياباً عسكريّة، وزنّاره له جناد عرضاني، وقد غرس في عقاله صورة النّسر السوري المعروف، وهذا، آنذاك لباس “سلاح الهجّانة”، المكلّفين بحماية البادية، فدعوته لبيتنا فلبّى، وسألته عن لباسه فقال إنّه سائق سيارة قائد سلاح الهجّانة، وبدأ يصف لي البادية، وكيف تعجّ بالغزلان، وأنّه سيأتي في الأسبوع القادم ليأخذني بزيارة إلى تدمر، وسوف يهديني غزالاً صغيراً، وبدأت أحلم بغزال صغير لأربّيه، ويتبعني حيث سرت، وانهارت أحلامي حين شاهدتُ أحد زوّارنا من ذلك الريف، ومرّ ذكْر صاحبنا، فقال “هذا أكذب مَن عليها، ها هو في القرية لا هجّاناً ولا عجّاناً”، فاتّسعت حدقتا عيني صديقي وقال: “العمى”!!، قلت أزيدك حادثة أخرى، فيوم كانت نتائج الشهادة الثانويّة تصل أوّلاً إلى مديرية التربية، وبعدئذ تُنشَر، ومَن كان له صديق في دائرة الامتحانات يستطع معرفة النتيجة قبل أن تُنشَر في الصحف، أو في لوحة الإعلانات في المدرسة، وكان ثمّة مَن أوحى لي أنّ يده طائلة في الامتحانات، وسألني أناس أعرفهم إنْ كنتُ أعرف أحداً لمعرفة نتيجة ابنتهم، فوعدتهم خيراً استناداً إلى قول صاحب اليد الطويلة في الامتحانات، واتّصلت به، فوعدني خيراً، وبعد نصف ساعة جاءني هاتف منه يبشّرني أنّها ناجحة وبمجموع عال، ونقلتُ الخبر لأهلها فاحتفلوا، ووزّعوا الحلوى، لنكتشف أنّ الصبيّة راسبة”!!.
قاطعني قائلاً: “العمى في عيون الكلب، ما الذي يدفعه لمثل هذا المأزق”؟!!.
قلت: “أظنّ أنّ هذا كان يقول لك ما يُرضيك وإنْ لم يكن له أصل، أملاً في التقرّب منك، وتلك شخصية مهترئة حتى التهتّك”.
قال: “صدق رسول الله فقد قال (ص): “عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البِرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق حتى يُكتَب عند الله صدّيقاً، وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرجل يكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً”،
قال الأصمعيّ لِكذّاب: “أَصَدقْتَ قطّ”؟ قال: “لولا أخاف أصدق لقلتُ لك: لا”.
قلت: “فما حال تلك الحكومات المتصهينة التي تكذب على شعبها وأمّتها..”؟!.
aaalnaem@gmail.com