ذاتَ عيــــد
د. نضال الصالح
رخيّاً، وموقّعاً من مقام اليقين، يرقُّ صوتُ القارئ وهو يرتّلُ: “وجعلنا الليلَ والنهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة”، ثمّ مُنهَكاً، ومتلعثماً بغير مقام، يرعدُ القلبُ بالحنين إلى الزمن الذي كانَ، والأعياد التي كانت. ثمّ ما يكادُ القلبُ يطعنُ في كهولة الرجاء من أن يمضي الليلُ الذي طالَ، فينجلي، ومن أن تمتدّ يدُ الضوء إلى عينيّ هذا النهار، فيبصر، حتى يتردّدَ النداء: صباحُ الخير يا حلبُ. صباحُ ما يليق بكِ من سورة الحياة، ومن آي حجارتك الكريم، ومن القدسيّ في مُسنَد هوائك، ومائك، وحاء حنّائك، ولامِ لازوردكِ، وباء البابونج من يديّ أمّي وهي، حين يدهمني مرضٌ، ترتلُ على جبيني ما تحفظُ من الأدعية القيامة إلى الحياة.
وكمَن في بريّة يصرخُ، كانَ النداء يرتدّ صدى إثر صدى، ووحشة إثر وحشة، سوى صورة الطفل الذي كانت يدُ أمّه القدّوس تطبقُ على كفّه الصغيرة كي لا يفلت منها في زحام الأسواق وهي تمضي به من متجر إلى آخر في “التلل”، و”المنشية”، و”باب الفرج”، لتشتري له ثياب العيد بما استطاعت أن تدّخر من عملها في الخياطة. الطفل الذي كان لسانُه يكاد يتشقّق مِن فرط النظر إلى الحلوى وليس في صرّة الأمّ ما يكفي من المال لتلجمَ خيولَ الرغبة في فمه إلى قطعة واحدة، وصغيرةٍ فحسبُ. الطفل الذي ما إنْ كانت اليد القدّوسُ تمسح على جبينه، حتى يبزغ فجرُ العافية في جسده الناحل، وحتى يصخبَ البيتُ بالشغب من جديد.
ليلةٌ بتمامها، وفجرٌ بتمامه، ثمّ هزالُ عينين أرهقهما السهر، وأضناهما اللهاث في فضاء الغرفة الطاعنة، شأنَ القلب، في التوق إلى صباح مختلفٍ، وإلى عيدٍ مختلف، عيدٍ لا يشبه الأعياد التي مضت، من السنوات العشر التي مضت، الأعياد التي لم يكن لها من اسمها نصيب، وإلى اليد القدّوس، ثمّ فيما بين برزخين، بين طيفِ نومٍ وزيْف صحوٍ، وبين فحيح ألمٍ وحفيف أملٍ، فإذا اليدُ القدّوسُ نفسُها، والصوتُ نفسُه.
ندى اليد على جبيني، ورجْعُ الترتيل في أذنيّ، ثمّ ما أكادُ أفتحُ عينيّ، حتى يتدفّق من النافذة صباحٌ لم أكن رأيتُ ما يشبهه منذ سنوات عشر، وحتى تشفّ ستارة النافذة عن ضوء لم تكن عيناي أبصرتْ ما يبلغُ بعضَ ضوئه منذ تلك السنوات نفسها، ثمّ ما أكاد أبلغ النافذة، حتى تنفتح بنفسها، وحتى أرى القلعةَ في مواجهتي، وحتى أراني، وأنا في مكاني، أصعد درجَ القلعة، ثمّ أمضي نحو قاعة العرش، ثمّ تنغرس قدماي عند الباب.
أمّي في صدر القاعة، وحولها أخوتي الذين كانوا تفرّقوا في أقطار الأرض، وأخواتي اللواتي لم أعد أرى منذ دهمت الظلماتُ المدينة قبل بضع من العجاف، ثمّ الحاكمُ بأمر الثمانية الذين كبروا على غفلة من الزمن، ثمّ ونحن جميعاً نتلو سورةَ النهار، النهار الذي سيأتي ذاتَ عيد، النهار الذي سيكون، لا بدّ سيكون.