أنطون تشيخوف وتطور الشخصية الحديثة
ابتكر أنطون تشيخوف صيغة نموذجية لكتابة القصص، حتى إن بعضهم عدّه أب القصة القصيرة، كما أنتج من محاكاة الواقع في قصصه فناً تصويرياً جميلاً، وتنقل تجليات شخصياته الخيالية القارئ إلى حياة مألوفة للغاية، فيصور لنا هذه الحقيقة عبر شخصياته وحواراتها حتى إنه يترك لقرائه – ربما – وحياً في دواخلهم.
من أبرز العناصر الأدبية في أعمال تشيخوف هو الشخصية، إذ كان كاتباً يخالجه إحساس رائع بعواطف شخصياته الداخلية. ويتضح هذا في شخصية مفتش الشرطة أخميلوف في قصة “الحرباء”. كان أخميلوف يسير في السوق عندما باغته “صوت صرخة مزقت ستار الصمت”، وحينما تبع مصدر الصوت، تبين أنه صوت كريوكين الذي أتى إلى مخزن الأخشاب طلباً للحطب.
ادعى كريوكين أن كلباً ضالاً عضه، وطالب بتعويض وبإطلاق النار على الكلب. ولأن أنظار الجمع الغفير توجهت إليه، اتفق أخميلوف على الفور مع صاحب الشكوى، قائلاً: “آن الأوان لأن ننتبه إلى أولئك السادة الذين لا يريدون الامتثال للقوانين”. ولكن عندما أشار متفرج جاء ليرى ما يجري إلى أن الكلب أحد كلاب الجنرال، غير أخميلوف موقفه، وألقى باللائمة على كريوكين. ومن ثم، قال أحد المتفرجين لأخميلوف: إن الكلب في الواقع ليس من كلاب الجنرال، فغيّر أخميلوف موقفه مجدداً، زاعماً أن “كلاب الجنرال غالية الثمن.. أما هذا فانظر إليه، إنه قميء، أهذا كلب يُقتنى؟”.
يستمر أخميلوف في تغيير موقفه في كل مرة يشير فيها أحدهم إلى شيء مختلف عن الحادثة، لضمان مصلحته وحسب، وما قلقه إلا بشأن صورته كشخصية عامة، وفي كل مرة يتخذ قراره بناءً على الطريقة التي يظن أن الجمهور يراه بها، لذا فإن أخميلوف هو التجسيد المثالي للظلم والنفاق البشري.
طور تشيخوف شكل بناء الشخصية من التركيز الرومانسي إلى ما يعرف الآن بالشخصية الحديثة، وفي هذا يقول الناقد تشارلز ماي إن “قصر القصة القصيرة لا يسمح ببناء الشخصية من خلال نوع التفاعل الاجتماعي الكثيف خلال المدة النموذجية للرواية”. وأدرك تشيخوف ذلك، فتجنب وصف آراء شخصياته، وترك مزاج الشخصيات أو مشاعرها تنقل حالاتها الداخلية.
ويقول الناقد كونراد أيكن إنه إذا وجد القارئ أن لدى الشخصيات أسلوب غريب في “التلاشي، فذلك لعدم السماح لنظرتنا إليهم بأن تكون خارجية ولو للحظة”. ويضيف إننا عند قراءة تشيخوف، لم نعد ننظر إلى الشخصية بموضوعية، بل نبدأ في رؤيتها “كسلسلة رائعة وصادقة من الحالة المزاجية”، ومن ثم يصبح هذا المزاج ذاتياً، وننضم إلى حياة الشخصيات، بدل مراقبتها كمشهد.
يدعم تطوير بناء تشيخوف للشخصية استخدامه للحوار، إذ لا يسمح بإفشاء أفكار أخميلوف أو كريوكين أو أي شخصية أخرى بأي نوع من السرد الصريح، ولا تتكشف تلك التفاصيل إلا عبر الحوار.
سمّى الشاعر الإنكليزي توماس إليوت أسلوب العرض هذا بـ “الارتباط الموضوعي”، وهو “حدث أو وصف يُروى بتفصيل ويفيد تجسيد العاطفة المطلوبة”، فعندما علم أخميلوف لأول مرة بحادثة عض الكلب لكريوكين، أعلن أنه سيعلم “الناس ألا تترك كلابها طليقة كيفما تشاء”، ويطلب في السطر التالي من الشرطي برفقته أن يكتشف من هو صاحب الكلب، ثم يصيح صوت من الجمع “أظن أنه كلب الجنرال جيغالوف”، فيطلب من الشرطي مساعدته في نزع معطفه.
مع عدم وجود تفسير سردي لتغيير أخميلوف لموقفه، يتحول الحوار التالي فجأة إلى إدانة لكريوكين: “لا بد أنك جرحت إصبعك بمسمار، وخطرت ببالك فكرة الحصول على تعويض، هكذا أنتم، أعرفكم أيها الشياطين”. الحوار في حد ذاته، بدون السرد، كافٍ ليفهم القارئ تغير مزاج أخميلوف، والطريقة الوحيدة التي يُدخل بها تشيخوف صوته في قصصه هي استيحاؤها من تجاربه الشخصية.
القصص التي تحدث مع شخصيات تشيخوف مستمدة من حياة المؤلف، وهذا لا يعني أن تشيخوف شهد حدثاً كالذي حدث في “الحرباء”، بل يعني ببساطة أن تجارب حياته ألهمت الإبداع الذي أنتج هذه التحف، وربما كان واضحاً في شخصياته، ففي قصة “السيدة صاحبة الكلب”، يسعى بطل الرواية غوروف وراء حب مثالي. وتعتقد الناقدة فيرجينيا ليولين سميث أن آنا سيرييفنا، المرأة التي يلتقي بها غوروف ويغرم بها “يمكن عدها رمزاً للحب المثالي الذي ربما تخيله تشيخوف ولم يحصل عليه”. وهناك دليل ملموس أكثر من هذا، بحسب سميث، كحقيقة أن القارئ يُبَلّغ أن غوروف “لم يكن قد بلغ الأربعين بعد”، وكان تشيخوف في التاسعة والثلاثين من عمره عندما كتب “السيدة صاحبة الكلب”، والتجارب “الواقعية” التي يصورها في شخصياته تجعل الشخصيات مفهومة للقارئ، فهم ليسوا رومانسيين، ويظلون أناساً عاديين.
تشبه طريقة تشيخوف في الكتابة التمثيل البارع، فعندما يصعد ممثل على خشبة المسرح، ويريد أن يُنظر إليه أنه أكثر من مجرد وسيط يستحضر عاطفة الجمهور، لا بد أن يشعر بصدق بالإحساس المقصود في دوره. يقول المخرج المسرحي بيتر بروك في كتابه “الفضاء الفارغ”: “إذا بدا الكاتب المسرحي قليلُ الخبرة رقيقاً في كثير من الأحيان، فقد يكون السبب أن نطاق تعاطفه مع الإنسان لا يزال ضيقاً”، لكن كيف يمكن للمؤلف أن يكتب عن شيء لم يجربه بعد؟ استطاع تشيخوف إثارة المشاعر عبر قصصه لأنه كتب بأمانة، فمثلما نتعاطف مع ممثل حزين على خشبة المسرح، نتعاطف مع شخصية تشيخوف الحزينة حقاً في النص.
ترجمة: علاء العطار