متلازمة الوعي الاستباقي
غالية خوجة
هل الوعي الاحترازي الذي يستشرف الأحداث قبل وقوعها ويحتاط لها هو ذاته الحاسة السابعة؟ وكيف تُعلّم الحياة الإنسان تجاربها دون أن تصدمه التجربة، بل أن يصدم التجربة بتحديها واستخراج مخارج لها مهما بدت صعبة أو مستحيلة؟
تفتح البصيرة كنوزها لكثير أو قليل من الناس ممن يتأملون ويتفكّرون ويستبصرون، فيحللون الواقع والأحداث ويصوغون قراءتهم الجامعة لإشارات قد لا تجتمع أحياناً برأي الآخرين، لكن الواقع أحياناً أغرب من الخيال والمخيلة، فمن الممكن أن نربط ما لا نتوقع أنه قابل للربط لنستنتج الواقع المخفي من الواقع الظاهر، والأحداث المخفية من الأحداث الظاهرة، فيبدو لنا بعد التحليل والتركيب أن الإمكان لوعي يقظ مستيقظ ممكن، ما دام ناتجاً عن تعقّل وتبصّر وروح تلتفت في كافة الاتجاهات لتقرأ أحداثها وحيثياتها بغائبها وغياباتها، وليس حاضرها، أو سطحها، أو ما يظهر منها فقط.
ولو عدنا بمثل هذه القراءة إلى الحرب العشرية وما قبلها، لاكتشفنا أن الكثير من الأحداث والوقائع التي سبقتها خلال عشرية أو عشريتين على الأقل، كانت ممهِّدة لها، وممنهجة بدقة لحدوثها، وموظفة بإتقان محكَم، ومنظمة من أجل الذبح والتدمير وعلى كافة أصعدة حياتنا الروحية والمادية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والإعلامية والتجارية والجغرافية والتأريخية والحضارية والعسكرية والسياسية، وكانت هذه الشبكة المتكاملة باطناً، المفككة ظاهراً من أسباب الحرب الكونية على سوريتنا الحبيبة ومسبباتها بدءاً من الداخل السوري وصولاً إلى الخارج العدواني.
ولولا وجود النواة الداخلية لهذا الفساد والتدمير والتخريب والظلام لما استطاعت حبكة الخارج أن تؤدي إلى كل هذه التدميرات الإرهابية الظلامية.
عانيت من هذا الوعي الاستباقي الكاشف، لدرجة أنني حللت وربطت وجمعت مؤشرات لا يمكن أن تُجمع ظاهرياً، وتحدثت بصوت مرتفع شامخ لكنه لم يكن مسموعاً، لأنّ أغلبهم للأسف كان قد عقد العزم على تفخيخ الداخل وتلغيمه استعداداً لما حدث وانتصرنا عليه دائماً.
أمّا أهم العوامل المسببة التي لا تبدو للعيان، ولا لشاهد العيان، فتكمن في تسطيح وعي الناس، وتفريغ عقولهم وضمائرهم وأرواحهم لتمتلئ بطونهم وغرائزهم وجيوبهم حتى لو كان هذا الامتلاء ثمناً بخساً لبيع الوطن، والوطن لا يباع ولا يشرى، لكننا نفك ونفكك بعض شيفرات ما حدث لنتأمله في ما يحدث من أجل إعادة البناء في الإنسان والمكان دون ثغرات أمنية واجتماعية واقتصادية وإعلامية وقانونية وسياسية وثقافية وفنية، ودون “أخطاء مادية” أيضاً بالمعنى الذي يدركه القانونيون، ودون ثغرات فساد مسرطنة، ودون ثغرات سيبرانية محتملة.
أذكر من تلك العوامل: الإنسان المناسب في المكان غير المناسب، التشجيع على الجشع والفساد والإفساد بكافة الوسائل الممنكة وغير الممكنة مع استغلال القانون وثغراته إضافة لاستغلال المنصب الوظيفي للصالح الخاص والتخريبي وصالح استزراع الأقارب والأباعد المناسبين للظلمات الممنهجة في الشبكة الوظيفية والحياة العامة، والسعي إلى تلغيم البنية التربوية والأسرية والتعليمية والمهنية والاختصاصية والإعلامية والسياسية والأدبية والفنية بكل تأكيد، ليصل الحال إلى هذا المآل، بدءاً من التحطيم النفسي والعلمي والمعرفي، واعتماد الإقناع القائم على أنه لا مستقبل ولا جدوى من العلم والثقافة والتعليم والأخلاق، مع محايثة اعتماد التحطيم الذاتي للذات وانكسارها ويأسها ثم الانفلات اللا واعي أو المقصود باتجاه الظلاميين.
ونضيف إلى ذلك استبعاد العقول البنّاءة والضمائر اليقظة والوعي الكاشف للظلام لدرجة المساومة العلنية والإشارية على الانضمام إلى ظلماتهم أو النفي خارج المكان، أو المضايقات والملاحقات والتهديدات الواضحة والإشارية.
والأجمل أن الشعب العربي السوري استطاع أن ينتصر على هذه المشهدية الدموية التدميرية وحبكتها الجهنمية كما انتصر على حبكات جهنميات أخريات على مرّ الزمان، وهذا ما يجيده الشعب المتجذر في وطنه مع السنديان والزيتون والغيوم والجدود والأرواح والعقول والضمائر والأخلاق والجنود والرموز المضيئة المتشبثة بالقلوب والجذور.