جميل حداد.. بيادر الإبداع
لم يكن الاحتفاء الكبير الذي حظي به مؤخراً في المركز الثقافي في “أبو رمانة”، بإدارة الإعلامية إلهام سلطان، وحضور كبار الشخصيات الأدبية والثقافية والسياسية والدينية، غريباً عن اسمه، وإن غاب عن الوطن لسنوات، إلا أن ما زرعه في سنين ماضية ما كان له إلا أن يثمر حباً ووفاء لجميل حداد الذي وصفته السيدة رباب أحمد رئيسة المركز فقالت: “هو ليس فقط بيدراً من بركة قمح البيان، وليس فقط يراعاً بليغاً من حبر القلب، هو من جميل الأخلاق طيبتها، ومن نور الوفاء قنديلها، ومن الأصالة نبلها”، فقد لعب حداد دوراً مهماً في المشهد السياسي السوري في ستينيات القرن الماضي، وهو الشاعر الذي في رصيده مجموعة من دواوين الشعر مثل: صدى الحنين، مزن الخريف، سنابل العمر والبيادر الديوان الأخير له.
خذني إلى الشام
لم يستطع حداد في كلمته التي ألقاها أن يخفي سعادته وتأثره الكبير، حيث الوفاء مازال حاضراً في قلوب السوريين، رغم ما يعانونه من ظروف صعبة، وهو الوفاء ذاته الذي يتصف به وقد أعاده إلى الوطن بعد اغتراب طويل عنه، مبيّناً أنه ابتعد عن الوطن جغرافياً، لكن الوطن ظل يسكنه حيث سار وأين اتجه، مؤكداً أن ما حلّ بوطنه جرح راعف لم يندمل، لكن ثقته بالشعب الذي خبره منذ زمن بعيد لا حدود لها، مؤكداً أن السوريين كطائر الفينيق ينهض من تحت الرماد، وهو مؤمن أن سورية ذاهبة إلى صبحها، مبيّناً أن حبه للوطن موثق بالفطرة، والبعد عنه يؤدي إلى فقدان الحياة رونقها وبريقها، لتبدو بألوان باهتة وشاحبة، وقد ظلت رياح الشوق تجتاحه دون هوادة:
خذني إلى الشام كان الشوق يقتلني وعفت نجواي والمرسال والورقا
بارع ومتمكّن
تناول الشاعر محمد حديفي في مشاركته بالاحتفاء بمسيرة حداد الذي رأى النور في ريف اللاذقية 1935، وكان ابناً لوالدين كادحين، والذي واظب على دراسته، وحينما توسعت مداركه، كانت أحوال الوطن هاجسه، متخذاً من السنديانة الوارفة العتيقة ستراً له ولزملائه المناضلين آنذاك، ومنهم الشاعر سليمان العيسى، الذين راحوا يتوافدون إليها لرسم مستقبل الوطن، وحين حصل على أهلية التعليم الابتدائي عُيّن معلماً في جبل العرب، فاستقبله أهله بالحفاوة والترحاب، وسرعان ما صار موجّهاً تربوياً، ومع قيام ثورة الثامن من آذار لمع اسمه وأصبح محافظاً لادلب، ولشدة إخلاصه في العمل، وحرصه على ترسيخ العدالة والقانون، أصبح بعد ذلك وزيراً للزراعة، مبيّناً أن لحداد سيرة غنية، فهو سياسي بارع أصيل، صاحب المواقف الوطنية التي يشهد بها التاريخ، وهو شاعر متمكّن، شعره يمتاز بالرزانة والعمق، لا يكتب إلا على أوزان الخليل وقصيدة الشطرين، مشيراً كذلك إلى أنه يحفظ الكثير من أشعار العصر الجاهلي، وما تلاه من عصور، وهو منحاز للمتنبي وأبي تمام، ومعجب بأبي العلاء وبدوي الجبل، ويقرأ للشعراء المعاصرين، وتعجبه بعض الأشعار، لكنه لا يعترف بشعرية قصيدة النثر، وقد توزع شعره بين هموم الإنسان بشكل عام، والمواطن بشكل خاص، وطغى شوقه لتراب الأرض، فحينما يكون الحديث عن دمشق يرق شعره، وتشم من بين حروفه رائحة الياسمين.
معجم الوفاء
وأشار د. علي سليمان إلى أنه عرف “حداد” في ظروف مختلفة في الشدة والرخاء، في مواقع متعددة من المسؤولية، عرفه صديقاً وشاعراً، فكان في كل الظروف والمواقع الشاعر والإنسان، لم تغيّره الظروف، وبقي وفياً ومخلصاً لوطنه، ولكل ما يؤمن به، مبيّناً أن تجربته الشعرية تمتاز بعدة ميزات أهمها أنها التعبير الصادق عن صاحبها إلى درجة التماثل، تعبّر عن قيمه وهمومه ومثله وعن رؤيته للحياة، كما تمتاز ببعدها الإنساني، فهي تحمل طاقة وتسامحاً ومحبة، وهي صفات اتصف بها الشاعر وعبّر عنها من خلال شعره الذي كان مزيجاً من الشعر الوجداني وشعر المناسبات وشعر التاريخ، حيث أرّخ في شعره لأشخاص وأصدقاء وأحداث ورموز ومناسبات وطنية يمكن أن تُهمل أو تُنسى مع مرور الزمن وتبدّل الأحوال، لكن “حداد” حفظها بشعره من النسيان، ومن مزايا هذه التجربة أيضاً، برأي سليمان، أنها الحامل لموهبة الوفاء لدى الشاعر، الوفاء للأهل والأصدقاء والوطن والقضايا العربية العادلة، والوفاء للفكر الذي يؤمن به، وهذا ما يجعل “سليمان” يُطلق على أعماله الشعرية اسم معجم الوفاء.
سمعة عطرة
أما الشاعر محمد حسن العلي فرأى أن “حداد” الشاعر امتلك ناصية القصيد، وراح ينهل الحرف من معين الألق، ويعلّ المعاني من قرار المعرفة، وينضد الشعر في سنابل من ضياء، فتورق مواسم من العطاء الأدبي الثرّ الذي يرفد مكتبة الشعر العربي بصباحات جميلة تتناول الأشياء بطريقة بسيطة، وهي خصيصة نجدها في شعره كحالة القص الشعري الموشاة بالصور، متوقفاً عند بعض القصائد في ديوانه (البيادر) التي يتحدث فيها عن شوقه لدمشق الذي شكّله بألوان مختلفة من الحب والعبارات والإيحاءات الدالة على تجذّر انتمائه في عشق الوطن، وحبه بصفة الشام رمزاً وطنياً خالداً، فيقول مخاطباً دمشق:
روحي ترفرف فوق الشام تسألها تزيح عني غبار الهم والنكد
كما يقول وهو ممن ساهموا في ثورة الثامن من آذار:
قد كان آذار وقّاداً لشعلتنا ودربه سالكاً يمضي ويزدهر.
وأشار العلي إلى أن لحداد تجربته الكبيرة في السياسة، والخبرة الواسعة في الإدارة، وله شخصيته المميزة في ستينيات القرن الماضي، ويشهد له تاريخه الناصع في تلك الفترة، وهو يغبطه على هذه السمعة العطرة التي نشرها في ادلب الخضراء، وكرز أريحا، وزيتون المعرة.
دوّن التاريخ وخلّد أبطاله
وختم المشاركات الكاتب والإعلامي د. فايز الصايغ الذي تحدث عن الكثير من المواقف في مسيرة حداد، مستلاً من ذاكرته العديد من الأحداث المشتركة، منوّهاً إلى أن “حداد” كتب الشعر ولم يقم الأُمسيات له، حيث ألّف وأصدر دواوين، فالشعر عنده تذوب فيه الكلمات على الورق، ومن ثم على أسماع الناس، وعلى أحاسيسهم ومعاناتهم، وكل ما يتصل بحياتهم، مبيّناً أن “حداد” دوّن التاريخ وخلّد أبطاله وحلّق بعيداً في ذروة الحضور، وقد باعد الظلمة بشعره وفكره، فاستحضر رهجة الضوء، وحين احتشد الشوق والحب، ولحظة الاحتشاد برأيه لا تحدث إلا عند من أتخمته الحياة كحداد الذي أطلق قصيدة فديواناً، منوّهاً إلى أن “حداد” كرّمه حينما طلب منه أن يكتب مقدمة لإحدى دواوينه، معترفاً أنه تردد كثيراً، والسبب أنه لم ير نفسه قادراً على وضع مقدمة لديوان شعر فيه كل ما سكب حداد، فتهرّب أكثر من مرة، وتدحرجت الظروف فكتبها ولم يكتب ما يستحقه برأي الصايغ الذي تعلّم من حداد الكثير في شؤون الحياة.
أمينة عباس