جسد التاريخ..!
ناظم مهنا
“إن جسد التاريخ كله، ليس سوى سرد مطوّل”، هذه العبارة ليست لي، ولا لأي كاتب حديث، إنها للكاتب السوري القديم من القرن الثاني الميلادي: لوقيان السميساطي والعبارة ترد في سياق رسالة له بعنوان: “كيف يجب أن يقرأ التاريخ؟” هذه الرسالة، في اعتقادي، ليس لها مثيل في تراثنا القديم والجديد، من ناحية الدقة والتكامل وسحر الأسلوب وروعته، إنها تحفة من التراث الكلاسيكي العالمي، تصلح لكل العصور حتى يومنا.
لوقيان كاتب ساخر، كان متشبعاً بالثقافة اليونانية، وله ثمانون مؤلفاً، نذكر منها: محاورات الآلهة، محاورات الموتى، محاورات الفلاسفة، وله أقاصيص عديدة يسخر فيها من الخرافات والرذائل التي كانت تسود ثقافة عصره، يشبهه النقاد الغربيون بفولتير عصره. له قصة بعنوان “قصة حقيقية” هي رحلة خيالية في الفضاء، تشبه قصص الخيال العلمي، وربما هي البداية الأولى لهذا النوع من السرد، أثر لوقيان بالروائيين التنويريين في الغرب، مثل: رابليه وديدرو، وجوناثان سويفت. ولا ينكر تأثيره أحد، بل يعترفون بمكانته وبمدى تأثيره عليهم، إلا أنهم يصرون، عن سوء نيّة، على يونانية الرجل، رغم معرفتهم بسوريته الأصيلة، التي يصرح ويؤكد عليها في مرات عديدة، قائلاً عن نفسه: “أنا السوري”، ولتأكيد يونانيته يصرون على إلحاق حرف السين باسمه ليغدو: لوقيانوس. كان لوقيان سورياً يكتب باللغة اليونانية، التي كانت لغة التأليف والثقافة والتدريس في زمنه، وكان يتحدث السريانية في حياته اليومية، مثل معظم السوريين، متنقلاً في أرض سورية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. ينسب له كتاب “تاريخ الآلهة السورية” وهو كتاب مهمّ ترجم ونشر في دمشق، طبَّق في هذا الكتاب نظريته في كتابة التاريخ التي وردت في الرسالة المذكورة، وتقوم نظريته على السمو بكرامة التاريخ، عبر نشر الحقائق والوقائع بأسلوب يحقق الفائدة المعرفية مع المتعة الحكائية الواضحة، بدقة وبعيداً عن المبالغات البلاغية أو التهويلية، بلا تلفيق أو كذب، وتفادياً للجنوح الخيالي. في رسالته هذه التي أرسلها إلى صديق يعبّر له فيها عن ضيقه الشديد من كثرة المؤرخين، ومن استسهال الكتابة في التاريخ، ومن تراكم الأخطاء والحماقات، ما يجعل “الصمت غير ممكن بين هذه الأصوات الصاخبة، وقبل أن تتفاقم الأمور، ويصفق الجمهور للأكاذيب، وتوضع المؤلفات في بلاطات الملوك، وتغدو حقائق يستحيل تغييرها”!. لهذا كله يقدّم نصائح للمؤرخين، نلخص منها: أن تتوفر عند المؤرخ صفتان أساسيتان تستمد من أصالته نفسها، وهما: الذكاء السياسي، والوضوح في التعبير، الأولى موهبة طبيعية، وأما الثانية فيمكن صقلها بالممارسة وبالعمل الدائب. ويدعو إلى ضرورة معرفة جغرافيا الأحداث، والتسلسل التاريخي، ورواية الأحداث كما جرت، وأن يضع المؤرخ نصب عينيه الذين سيقرؤونه في الآتي من الأيام، وأن يكون المؤرخ حراً، يصادق الحقيقة والصراحة، ويروي بوضوح ما وقع فعلاً دون تهيب أو وجل، وأن يتمتّع المؤرخ بالقدرة على التحليل والاستنتاج والتمييز، والشك بالمرويات، وإجراء المقارنات التي تنشط الذكاء والتنبّه عند القارئ. كما يحبذ لوقيان أن يكتب المؤرخ مقدمة يشرح فيها ما سيقوله.. وبعد كل هذا يغدو السرد سهلاً طبيعياً، إذ أن جسد التاريخ كله ليس سوى سرد مطول. لذا وجب علينا أن نزينه بجميع ما تمتاز به القصة، وأن يكون سيره موحداً متوازياً، منسجماً مع نفسه، دون رفع أو خفض، وأن يكون ذا وضوح جليّ، يهب لجميع قصصه شكلاً تاماً وكاملاً.. مع تأكيده على أن الإيجاز ضروري دوماً وخاصة حين يكون لدينا الكثير مما نقوله، أي أن نمرّ مسرعين بالأشياء البسيطة ذات الفائدة الضئيلة، كما نفيض بما يكفي حول الأمور الكبيرة.