دراساتصحيفة البعث

جذور أزمة الدولة في أفريقيا

لعقود من الزمن، يعرب كل متابع للشأن الأفريقي عن أسفه لرسم حدود أفريقيا من قبل قوى خارجية. فبين عام 1881 والحرب العالمية الأولى شكل الأوروبيون مستعمراتهم، وبعد ذلك بوقت قصير ظهرت دول أفريقية جديدة. كانت المأساة  الأصلية التي لحقت بأفريقيا أخطر بكثير وأبعد من مجرد رسم الحدود التي يمكن أن يبدو منطقها حتى الآن غريباً وتعسفياً من منظور مئات الملايين من الأفارقة، حيث تسبّب الأوروبيون الذين انجذبوا إلى أفريقيا في انحراف أكثر عمقاً في القارة لأغراض تغذية تجارة العبيد لديهم، ثم استعمار الممالك والدول الأفريقية من أجل بناء إمبراطورياتهم العالمية.

منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت أجزاء كثيرة من القارة تمرّ بعمليات فوضوية من الغزو والتوطيد السياسي من قبل الهيمنة الإقليمية الناشئة، على سبيل المثال، تضمّنت هذه الدول القادرة والطموحة مثل أشانتي، بنين، وربما الأكثر إثارة للاهتمام من كل ذلك، كونغو، التي أرسلت ممثلين إلى الفاتيكان ودبلوماسيين إلى البرازيل، وقاتلت إلى جانب الهولنديين في تحالف من مبادرة خاصة لهزيمة البرتغاليين في جميع أنحاء جنوب المحيط الأطلسي.

لم تكن العمليات الأصلية لتشكيل الدول في أفريقيا مختلفة تماماً عن تلك التي كانت في أوروبا نفسها في ذلك الوقت، ولولا خروجها عن مسارها بسبب الغزو الأوروبي والاضطراب والموت اللذين تغذيهما تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، لكانت قارة مختلفة جداً اليوم. وبدلاً من أفريقيا المجزأة التي نراها على الخرائط المعاصرة، كان يمكن أن تكون عالماً كبيراً وواسعاً نسبياً استوعب شعوباً أخرى تحت راية واحدة وربما تحت لغة أفريقية واحدة، تماماً كما فعلت أوروبا.

لو استمرت العمليات السياسية الداخلية في أفريقيا دون اضطراب، يمكن تخيّل أن يكون عدد الدول بين 25 أو 35 دولة قابلة للحياة بدلاً من 54 دولة يعاني بعضها المناخ القاحل، وندرة الموارد والعزلة الجغرافية، وغير قابلة للاستمرار اقتصادياً إلى الأبد، والبعض الآخر لا يزال منقسماً بسبب مسائل الهوية التي منحها المستعمرون الأوروبيون قوة قانونية.

التاريخ، للأسف، لم يمنح أفريقيا المساحة اللازمة للوصول إلى مثل هذه النتيجة، وكما تظهر الوقائع التي شهدتها وتشهدها أركان القارة، فإن العديد من الحواجز الأخرى تقف عائقاً أمام طريق أفريقيا نحو تنمية سياسية أكثر صحة واستقراراً.

تأتي الأخبار المعنية من إثيوبيا، التي، على عكس كل دولة أخرى في القارة، شكلت إلى حدّ ما حدودها الخاصة. إثيوبيا هي المثال الأفريقي الوحيد لدولة إمبراطورية وليدة محلياً، لكن لا يزال النمط القديم للنظام السياسي فيها يحدّد صراعاتها المستمرة، فمنذ الإطاحة بآخر إمبراطور، هيلا سيلاسي في عام 1974، توالت الأنظمة في إثيوبيا من ماركسية متشدّدة إلى استبدادية مدعومة من الغرب إلى ما يزعم من ديمقراطية ليبرالية، مثل الحكومة الحالية، التي يحاول رئيس الوزراء الحائز على جائزة نوبل للسلام، أبي أحمد، تسويقها كديمقراطية ليبرالية. لكن في كل هذه التجسيدات، عملت الدولة على الاحتفاظ بالسيطرة على مجموعة متنوعة للغاية من السكان مع الاحتفاظ بأراضيها الشاسعة. ومع ذلك، على الرغم من العمل لضمان سيطرة المركز، فقد خسر كل نظام متتالٍ أرضاً كبيرة. ففي عهد ميليس زيناوي، الذي حكم من 1991 إلى 2012، نالت أريتريا -وهي منطقة لها تاريخها الخاص في الحكم الذاتي- اعترافاً دولياً كدولة مستقلة في عام 1993 بعد حرب مريرة استمرت ثلاثة عقود مع إثيوبيا. وتحت حكم أبي، منذ أواخر العام الماضي، تأجج صراع أديس أبابا مع منطقة تيغراي وسكانها البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة.

بلغ الأمر ذروته بهزيمة مذهلة لواحد من أكبر الجيوش في أفريقيا وأفضلها تجهيزاً، حيث تمّت هزيمة القوات الإثيوبية من قبل مقاتلي التيغرايين واستعراضهم كأسرى مهانين بالآلاف في العاصمة الإقليمية ميكيلي.

هل سيتطوّر المأزق الحالي غير المستقر بين تيغراي وإثيوبيا الناجم عن إعلان وقف إطلاق النار الأخير إلى حرب أهلية صريحة ومحاولة للانفصال؟ وهل ستقرّر المكونات الأخرى في الإمبراطورية القديمة، التي لا تزال غير مدمجة بشكل جيد، تقديم عروضها الخاصة للحكم الذاتي؟.

بقدر ما يعاني قادة إثيوبيا مع إرثهم الإمبراطوري، يواجهون وقتاً عصيباً للتخلي عن السيطرة القاسية من الأعلى إلى الأسفل، ويبدو أن هاتين الواقعتين– الإرث الإمبراطوري، وردود فعل السلطوية طويلة الأمد، مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً. فقد فاجأ آبي الإثيوبيين والعالم بأسره عندما أطلق سراح سجناء سياسيين وخفّف من الضوابط البوليسية عند توليه السلطة، لكنه شدّد الأمور مرة أخرى منذ ذلك الحين، ومن المفارقات أنه يتحرك في هذا الاتجاه بعد حصوله على واحدة من أعظم الجوائز في العالم الغربي، جائزة نوبل للسلام، في عام 2019. ويقال إن والدته أخبرته أنه سيكون حاكماً عظيماً ذات يوم، لكن كونك حاكماً عظيماً في بلد مجزأ ومعقد مثل إثيوبيا قد يتطلّب التخلي عن بعض الرغبة التقليدية في السيطرة. لقد انقضى زمن الإمبراطوريات، ويبدو أن الخيار الذي يلوح في الأفق اليوم هو فيدرالية تنقل المزيد من السلطة إلى مناطقها في ظل آليات أكثر ديمقراطية، أو تفكك أوسع للبلاد إلى الأجزاء المكونة لمملكة قديمة.

عناية ناصر