نحن وهم
حسن حميد
منذ زمن بعيد، وأنا على قناعة أنّ الغرب أشبه بحبة جوز حديدية، نقوشها الخارجية فتنة ودهشة، ودواخلها ظلمة لا حدود لها، ذلك لأنّ ثقافة الغرب أُقيمت على مفهوم قهر الآخر وإذلاله، وتتفيه ما بين يديه، ورمي ما حاز عليه عبر مراحل التاريخ كلها في أقرب حاوية، فالغرب لا يحترم إلا نفسه، ولا يثق إلا بنفسه، ولا يعترف بالسيادة والمكانة إلا لنفسه، لهذا كتب الكثير من الكتب، وطوال أزمنة عدّة، وعرفتها أجيال عدّة، من أجل أن تكون توصيفاً لحاله وأحلامه من جهة، وتوصيفاً لحال الآخر وأحلامه من جهة أخرى، وكل هذه الكتب، وموضوعاتها كثيرة متشعّبة، أرادت أن تُخرج الغرب من النظر إلى ذاته وحده، أي أن يُخرج رأسه فيرى ما حوله كي لا تستغرقه الحياة والأمكنة والأحلام التي تخصّه داخل الإطار الغربي وحده، ذلك لأنّ الغربي، وحين كان ينظر في مرآته، كي يرى البلدان المجاورة له، ما كان يرى سوى الغربي المثيل له، لذلك تنامت الأطماع وتكاثرت، وتعدّدت حروب الغرب فيما بينهم إلى حدٍّ أنذرهم بالهلاك والموات معاً، لهذا كُتِبَت الكتب التي دعت إلى أن تصير أطماع الغرب وتتوجه إلى خارج بلدان الغرب، أي أن تخرج الرؤوس من الإطار الذي كان محدّداً وبصرامة شديدة! ولم تكن من وسيلة أجمع الغرب على أهميتها وسطوتها لينفِّذ ما يريده خارج الإطار الذي عرفه التاريخ، وقرّته الاتفاقيات، سوى الهيمنة على الآخر، وقد حدّد مفكروهم وسياسيوهم مرتكزات الهيمنة، ورتّبوا أولوياتها، ولعلّ من أهمّها حيازة المعرفة والمضايفة عليها، أي معرفة الآخر معرفة دقيقة، ومن جميع النواحي، وطلب المزيد منها، ومن بعد تنظيم هذه المعرفة وتبويبها حسب اتجاهاتها وفروعها كي تُستخدم في مواجهة الآخر للقضاء عليه أو لاستتباعه بوسيلتين اثنتين هما: التغريب والاستلاب، وكلاهما تعملان على أن يفقد من يؤمن بهما ثقته بنفسه، وتاريخه، وراهنه، ومستقبله!.
الغرب، وحين نظر إلى بلادنا، أقرّ، وقبل قرن من زمننا هذا، أي قبل عصر الانتداب، وقبل اتفاقيات سايكس بيكو، أنّ الخطر الداهم له، أو أنّ الخطر الذي قد يدهمه، هو الخطر القادم من ضفّة المتوسّط الشرقيّة، ولبابة هذا الخطر كامنة في فكرة الوحدة التي تلفّ سكّان هذه المنطقة، فهم وحدة جغرافية باذخة في الأهمية، وهم وحدة فكرية باذخة في الحضور، وهم وحدة اجتماعية متجانسة تبديها العادات والتقاليد والأعراف والتصوّرات، وهم وحدة مهولة في العقيدة القائمة على مفهوم الإيمان، ولهذا، وبعد نقاش وحوار ومراجعات وتصويبات شُغِلَ بها أهل الفكر والرأي والتاريخ والجغرافية والفلسفة والسياسة، من سبع دول غربية (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال، هولندا، بلجيكا، إيطاليا) أقرّ هؤلاء ضرورة تفكيك مفهوم الوحدة لسكّان ضفّة المتوسّط الشرقية. كان ذلك في (مؤتمر كامبل بنرمان 1907)، ووثيقته التي كُتِبَت آنذاك، وبعد اجتماعات هي الأطول في تاريخ المؤتمرات، ما زالت هي المرجعية التي يعتمدها الغرب في النظر إلينا شعباً وتاريخاً وراهناً ومستقبلاً.
رؤية الغرب هذه خطيرة جدّاً لأنّها كشّافة لنيّاته تجاه الآخر، وكشّافة لطريقة خروجه من النزاعات والحروب التي عرفتها القارة الأوروبية طوال قرون، ولعلّ آخرها ما تمثّله الحربان العالميتان الأولى والثانية، وفي أعقابهما توافق الغربيون على أنهما آخر الحروب داخل القارة الأوروبية، أعني فوق أرضها. ولكن طيّ هذه الخطورة، فكرة ذهبية تخصّنا، وعلينا التمسّك بها، لأنّ رؤية الغرب تنبّهت إليها، وهي فكرة الوحدة البادية جلية في الجغرافية، والسكان، والتاريخ، والاجتماع، والعقيدة، وهي فكرة تكتنز قوتنا كلها، فهل لنا من تدبير يجعل فكرة الوحدة دانية جلية وهّاجة في العقل والقلب، وبانية في النفوس والأرض والكتب؟.
Hasanhamid55@yahoo.com