ندى الروح
سلوى عباس
فجر يذهب، وآخر يأتي.. سنة أخرى ترحل بكل خيباتها ولحظات فرحها العابرة.. ويبدأ عام جديد بكل ما يخبّئ في جعبته من حكايات ملوّنة بألوان الحياة المتماوجة بين غيمة حزن وغيمة فرح.. هكذا يمرّ العمر، وتتوالى السنوات، العشرون ثم الثلاثون تليها الأربعون، وبعدها تتربع الخمسون على ناصية الحلم تتهادى في طريقها إلى الستين التي اكتمل قمرها منذ أيام.
في هذا اليوم حضرت في ذاكرتها تلك الطفلة التي كانت تنام وراء الحلم جاهلة في الحياة حقيقتها المخاتلة.. استذكرت تعاليم أمها التي كانت تسرّبها لها عبر حكايات ما قبل النوم، بدءاً من حكاية ليلى والذئب الذي يتربّص بها، وصولاً إلى حكاية الفتاة التي سيأتي يوم وتستبدل شرائط جدائلها الملوّنة بأزاهير الطفولة وعفوية لحظاتها، بشرائط ملوّنة بألوان الحياة المختلفة.
مرّ الزمن وكبرت هذه الطفلة واختلفت الحياة بالنسبة لها.. استبدلت جواز سفرها الطفولي بآخر مليء بالآمال والطموحات.. رفعت مرساتها باتجاه شاطئ آخر لتكون ابنة الحاضر والمستقبل، حاولت أن تعيش لغدها الذي أصبحت فيه أغنيات فيروز هي من تهدهد روحها، فكانت تغفو وتصحو على صوتها وتستمتع بحكاياتها التي ربما احتارت، أيّ من هذه الحكايات تشبه حكايتها، فقد أخذتها الحياة في مساربها المتعرجة، وتركتها هائمة كيمامةٍ ضلّت طريق عشها، يتلبسها حزن مطبق على روحها، كلما حاولت الإفلات منه زادت الحبال حولها تشابكاً، وحكايات أمها وما اختزنت في ذاكرتها من تفاصيل براءتها لم تنقذها من كذب الآخرين عليها، وسرقتهم لسنين من عمرها، والحظ الذي خانها مرات ومرات.
يبدو من مفارقات القدر أنه في النهاية يفرض علينا ما يريده ويوشم أرواحنا بوشومه، لنكتشف بعد مرور الزمن أن كلّ ما حققناه في حياتنا، وما لم نحققه، رهن أقدار محضرة لنا، فنرى أنفسنا محاصرين بزمن يحيل التباين في الأشياء مستوياً.. يساوي الحب بعدمه، والصوت بالصمت ولون الحقيقة بالضباب.. لحظات عاشتها مع نفسها كانت لها كميناً من النشوة المخادعة التي أسقطتها في أعالي الحلم، فبدت كما وردة أغلقت الظلمة جفونها طوال ليل من برودة وسكون، ثم خلخلت ضياءات النهار وريقاتها بالانتعاش الذي تعيشه للحظات، لتعود مرة أخرى إلى سباتها علّها تقع في شرك حلم آخر يعيد انتعاشها.
ربما كلّ واحد منّا يعيش وفي داخله شخص آخر حزين مثقل بالأوجاع والهموم، هاوٍ للنكد صائدٌ للابتسامات، شخص نألفه ولا نستطيع فكاك عهودنا معه أو نقض حالة تشابكه المتعب فينا، نحاول دائماً أن نحجبه عن التمادي في استلابه لنا وتنطّعه علينا في اتخاذ قراراتنا، إنه شخص حزين يهادننا أحياناً ويصقل ابتهاجنا بشفيف شاعريته التي تتبدى عادة في كلماتنا كضوء شاحب ينزف فينا تراثاً من الوجع والاستكانات المؤلمة، وهناك أشخاص قلوبهم نابضة بالحياة يعشقون كل لحظة فيها، تبقى أرواحهم شابّة لا تشيخ مهما عصف بها العمر، وبالتالي هذه الحيوية تنعكس عليهم وعلى من حولهم حالة من الرضا والسعادة، فجمال الروح هو الشيء الوحيد الذي لا يستطِيع الزمان أن ينال منه، وهؤلاء مدركون أن الحياة قصة قصيرة ألّفها الـزمـن، فعلقوا أمانيهم على أغصان الشجر دون أن يعطوا بالهم لفعل الريح، متيقنين أن أشرعة مراكبهم لن تكسرها عواصف اليأس، لأن قلوبهم عامرة بالمشاعر الصادقة والبعيدة عن الزيف والنفاق، لذلك تبقى الحياة نابضة في عروقهم مهما بلغ بهم العمر، فنحن جميعاً نحتاج إلى أن ننتمي لإنسانيتنا وللحياة التي تليق بنا، وما نعيشه من تفاصيل هو صدى لأرواحنا وأفكارنا.