آب اللهّاب
د. نضال الصالح
في موسوعة حلب المقارنة، بديعة علّامة حلب خير الدين الأسدي، في معرض تعريفه بلفظ (آب)، أنّ مدلول الهمزة والباء في اللغات السامية القديمة: الغلّة والثمر والنضج، ويدانيه في العربية لفظ الأبّ (بتشديد الباء) ويعني العشب، أو اليابس المدّخر من الفاكهة. وحسب الموسوعة نفسها أنّ آب هو الثامن من شهور السنة الشمسية، والخامس في التقويم السرياني، واسمه في الكلدانية القديمة (آبو)، وفي الأشورية والبابلية والكنعانية والتدمرية (أب) و(آب)، وسمّاه الرومان (أغستوس) تكريماً لقيصرهم بسبب إحرازه أعظم انتصار له في ذلك الشهر، وجعلوا أيامه واحداً وثلاثين تعظيماً له شأنَ سابقه (يوليوس) الذي سمّوا الشهر السابع من شهور السنة باسمه. وحسبها أيضاً أنّ الحلبيين خصّوا هذا الشهر بغير مثل من أمثالهم الشعبية، ومنها: “آب اللهّاب، وتموّز الهاوي وآب الشاوي، وإذا أجا آب الصيف عاب، الما درّى بآب شحم قلبو داب”.
ليس مناسبة ما سبق هو “آب” نفسه، على الرغم من جدارة هذا الشهر بمئات الصفحات، ولاسيّما أنّه هذه السنة لا يشبه ما سبقه من أشقاء له طوال ما يزيد على نصف قرن حسب الأرصاد الجوية، ولاسيما أكثر أنّه يزداد طيشاً يوماً إثر آخر، ولا تأخذه شفقة بحقّ العباد الذين تتأبّى ربّة الصون والعفاف السيدة كهرباء على الكشف عن وجهها الصبوح إلا مرتين طوال اليوم.
ليس مناسبته هذا الجحيم الذي يوزعه آب علينا هذا العام، بل صفته في الأمثال الشعبية الحلبية، اللهّاب، أي صيغة المبالغة الدالّة على كثرة الفعل، بل الإيغال فيه، والتي اشترط النحويون اشتقاقها من الأفعال الثلاثية وحدها، فهذه الصفة حال كثير من حالات كثيرة في الواقع، ومن ذلك صفة قوّال لمن يكتفي بتصديع الرؤوس عن القيم بينما قطيعة بينه وبينها تستعيد الحكمة القائلة: “بين القول والفعل يتوسط البحر”، ومنه صفة نمّام، وهمّاز، وكذّاب، ودجّال، وسوى ذلك.
في الواقع، ومنذ كانت الحياة، ثمّة تخمة بالقوّالين الذين لا يهدأ لهم لسان في نسبة الفضيلة إلى أنفسهم، بينما يومهم كلّه شأن آخر هو نقيض ذلك وضدّه، ومن أولئك غير قليل ممّن هم من غير مرجع وظيفي أو معرفيّ أو اجتماعيّ: مسؤولون في غير موقع، وكتّاب في غير جنس أدبيّ، وفنّانون في غير حقل جمالي، ومربّون في غير مستوى تعليمي، وتجّار في غير مجال، و.. حتى ليبدو كوكب الحياة محكوماً بألف آب وآب، وجحيماً لا يرقى إلى جنونه ألف لهّاب ولهّاب.
إنّ النظرية، حسب علماء التربية والاجتماع والسياسة، ذات بُعد ذرائعيّ (براغماتي)، وبحسب كثير من الفلاسفة كثيرٌ من النظريات وثيق الارتباط بالتأمل العقليّ المحض والمتعالي أحياناً على الواقع، وحسب هذا الأخير نفسه، الواقع، كثيرٌ من العالم حولنا طاعنٌ في اغترابه عن الممارسة التي هي شرط لتكون النظرية دائمة الاخضرار.
وبعدُ، وقبلُ، فهل الواقع على بُعد خطوة واحدة من جحيم يشبه جحيم آب اللهّاب!.