هل ستكون عجوزاً؟
غالية خوجة
الجميع يبحث عن ماء الحياة الأبدية، كي لا يشيب أبداً، والجميع يبحث عن الخلود حتى لو كان مخبوءاً في “حجر الفلاسفة”، أو في عشبة مثلما تحكي لنا ملحمة “جلجامش” التي تختتم مغامراتها بالوصول إلى جزيرة “أوتنابشتيم” وضياع العشبة من “جلجامش” الذي رفض الخلود المتجسد بحالة راحة أبدية مع الطبيعة دون أن يقوم “أوتنابشتيم” بأي فعل أو عمل.
ما بين الحياة والخلود والأبدية زمن من الموت ينمو معنا مذ كنّا علقة ثم مضغة، ويكبر معنا ونحن أجنّة، ويسير في أوردتنا متخفّياً، ريثما نعبر الطفولة والشباب، لكن ثلة منّا تفكّر بأنها ستدخل مرحلة الشيخوخة، وتصافح زمنها الذي لا يرجع إلى الوراء، وثلة منا تفكر بمن هم في هذه المرحلة العمرية، وكيف نساعدهم على احتمال المتبقي من زمن الحياة فرادى، وأسرة، ومجتمعاً، وجهات خاصة وحكومية؟ ماذا لو رأيت نفسك عجوزاً يعبر الشارع دون أن يلتفت لمساعدته أحد، بل ربما تسرع السيارات أكثر وكأنها تصرّ ألاّ تراه؟ وماذا لو كنت تلك العجوز الوحيدة المريضة الفقيرة التي تخلّى عنها الجميع من أولاد وأحفاد وجيران ومجتمع؟ وماذا لو كنت ذاك الرجل الهرِم المشرد على الأرصفة بثياب ممزقة، وعقل مصدوم، وذهن بلا وعي، بينما الأولاد والشبان الأشقياء يمازحونه بقسوة؟ ماذا لو كنت في دار لرعاية العجزة وأنت غير ممتنّ لما يصادفك من إهمال؟
ماذا لو كنت شيخاً طاعناً في السنّ لا تملك قوت يومك؟ أو تحمل أكياساً صغيرة من الدواء والخضراوات ولا يهبّ أحد من الناس المتحركين في المشهد العابر لمساعدتك، بل يظل الطفل يلهو بالكرة مع رفاقه، ويظل المراهق يصرخ مازحاً مع أقرانه، ويستمر الشبان والصبايا بمحادثاتهم الهاتفية وضحكاتهم المرتفعة دون أن يروك، وكأنك لست هنا أبداً؟
ماذا لو كنتَ تلك المرأة العجوز بظهرها المنحني، وعكّازها المتباطئ مع مشيتها، وهي تسند يدها الأخرى على الجدار لكنها لم تتوازن وسقطت على الرصيف؟
أسئلة كثيرة تجعلنا نفكّر بالإنسان ووجوده فيما لو كان أحدنا هو، ومرّ علينا زمن من التعب والإرهاق والمرض والعنف، فلم يحفظ له أحد كرامته الإنسانية لا من خلال عمله، ولا أسرته، ولا المجتمع.
لنتذكّر أن كلاّ منّا من الممكن أن تقسو الظروف عليه، وتتركه الحياة على هوامشها بينما كان يصوغ متونها وأحداثها ومحاورها وحكاياتها مع عائلته وجيرانه وزملائه وأصدقائه ومعارفه ومجتمعه الصغير، ومجتمعه الكبير، ووطنه الجميل.
لكن، لماذا يتخلّى الإنسان عن الإنسان لا سيما في أوقات الضيق والمحَن والحاجة؟ هل لأن الجميع يشعر بأنه يعيش في ضيق ومحَن وحاجة؟ أم لأنّ الأنانية وتفضيل الذات على مساعدة الآخرين هي السبب الأساسي لابتعاد الناس عن القيم الجميلة من الشهامة والكرامة والمساعدة وإغاثة المظلوم والضعيف وكبير السنّ؟
ليجرّب كلٌّ منّا الإجابة عن الأسئلة، ليكتشف ذاته، وطريقة تفكيره بذاته والآخرين، لعله يسمح لأعماقه بالانطلاق، ثانية، إلى التفاعل مع الحياة بإنسانية أكثر، ومحبة أكثر، وعطاء أكثر، ممّا يجعل أرواحنا ترتاح أكثر، وتحلّق بعيداً عن الدنيا الزائلة التي يلهث وراءها الجميع، ثم..، يتساقط وراءها الجميع، دون أن تلتفت إليهم الدنيا الراكضة إلى الهاوية، ودون أن يلتفت الجميع إلى الجميع، دون أن يلتفت أي واحد من الجميع لأي واحد من الجميع.