الأسئلة المشرعة على التأويل في تجربة الكاتب العراقي عبد الأمير محسن
محمد الحفري
في مجموعة الكاتب العراقي “عبد الأمير محسن” القصصية التي تحمل عنوان “قطيع أسود من السنوات” وجدت قيمة مضافة إلى فن القصة، وهذا ما يجعلها تتميّز عن غيرها، لدرجة نحسب فيها أننا أمام تجربة جديدة تدخل عالم السرد الذي شهد الكثير من التطورات خلال السنوات الفائتة.
في العنونة الرئيسة يربكنا هذا الالتباس الذي يتغيا منه الكاتب الإشارة ولو بطريقة ضمنية إلى أشياء تحتاج إلى قارئ مكتشف، ومتبصّر في آن، وهي مدعاة للتأمل، ويمكن لها أن تثير الكثير من الأسئلة المشرعة على التأويل، والتي تدخل إلى عمق نصوصه لتمتزج مع انسيابيتها، وتصبح جزءاً من بناء المتون “متى ينتهي هذا القتال العنيف الضاري، وتضع الحرب أوزارها؟”، “ما الذي يجعل الثراء في كل شيء محاطاً بالموت؟”، “أين أنا الآن؟”.
وهذه الأسئلة جملت نصوص المجموعة، وأخذت أهميتها من توصيل فكرة أن الكاتب لا يمتلك الحلّ للكثير من القضايا، ولكنه يمكن أن يشير إليها، وقد تجعل من القارئ شريكاً فعلياً يساهم في اقتراح، أو في إكمال بناء متخيل يمكن أن يشارك فيه فيما بعد، وهذا بدوره يزيد من الفاعلية المرجوة بين المرسل، والمتلقي.
وبعيداً عن التجنيس الأدبي لن نغفل أو نسامح في موضوع جمال النص من حيث الفكرة وطريقة طرحها والشكل الذي أخذه النص، وهذا يعني أننا في نهاية الأمر نبحث عن النص الوافي، وهو ما يدفعني للقول دائماً: أعطني نصاً جميلاً، ولن أتدخل في خياراتك الأخرى. إذاً وبناء على ذلك، فالجمال هو المعيار الحقيقي للأدب.
تأخذنا مجموعة “قطيع أسود من السنوات” إلى الممازجة المدهشة بين واقع الحال، والقديم حدّ التماهي ليس من باب المقارنة بينهما فقط، ولكن للتأكيد على أن ما حدث سابقاً قد يحدث وبالتالي نجد ذلك الخيال المجنح بعيداً، والمعجون بالصدق ودم الضحايا، والمشدود بعرى وثيقة إلى أرض الواقع، حيث يذهب بنا القاص إلى زمن “حمورابي” و”نبوخذ نصر” ويستند على حكاية “شهريار” ليمرّر بفنية ما يريده في نصه الأول، ثم يعود بنا إلى سنوات تكاد تكون قريبة منا حدّ التداني والالتصاق، إلى بائعات “القيمر” الجميلات اللائي يشعلن الأحلام في صدور الجنود المسافرين إلى الجبهات، والموت الذي يمكن أن يتربص بهم عند كل زاوية ومنحنى، ثم يجعلنا القاص زيادة في الإقناع نرافق أبطاله إلى أماكن واقعية مثل “الموصل. الرمادي. العشار. مرصد قريش”.
وفي خلطته العجيبة نجد تلك الأسماء الحقيقية لشهداء، وأصدقاء وكتّاب، ووصل به الأمر أن وضع اسمه في أكثر من مكان ليواجهنا به مباشرة حيث يقول مثلاً: “أنا حكّاء الحكايات وسارد القصص بالغة القصر “عبد الأمير محسن” أجلس الآن على كرسي الاعتراف، لأحدثكم عن كتابتي لهذه القصص القصيرة التي دفعتني إليها الأحداث والتجارب”، وفي إطار هذا المزج قد نجد أكثر من قصة تشتغل على هذه الطريقة، نذكر منها على سبيل المثال قصة “وجه آخر للوهم”، وهذه الخلطة في الكتابة وفي فن القص بالذات لا يفعلها سوى كاتب متمكن من أدواته، ولديه الكثير من الثقة والاطمئنان التام لما بذره، ونبت زرعاً ندياً في حقل إبداعه الخصيب.
وإذا كنت من المؤمنين أن القصص تكتب من أجل خواتيمها، فهذا الكاتب يطبق ذلك ساعياً بجدية إلى نهايات لا يمكن توقعها، ومن العبث القبض بسهولة على ما يرومه من قصد، فهو لم يقل لنا إن الموت قد حلّ على بطله في قصة “عازف الناي” واتكأ على الخرافة في بناء قصة “طنطل”، وكذلك الأمر في قصة الفتاة التي تنتظر عريسها الذي غدا شمعة، وصارت هي الشمعدان ونحن أمام رمزية سامقة في قصة “استنساخ” وهو يعيد بطليه من أقاصي الحزن ليبدأا الحياة من جديد في قصة “دوران” وقد أدارا ظهريهما للمقبرة، ولعمري أن في قصته “الزمن الفائض” تلك السحرية المحمولة من رحم الألم والمعاناة، ليطرح من خلالها الأسئلة الجارحة التي تنزف معها الروح لحظة العويل والنواح الذي لا يشبه سواه: “كيف ستشمّ أمي رائحة ابنها؟. كيف تحتضن النتف المتفرقة، وتقبلها؟. كيف تتعرف زوجتي وولداي إلى جثماني؟ وكيف، وكيف؟.
وعلى هذه الحال نحن أمام نصوص لا تسلّم نفسها بسهولة، وعلى المتلقي أن يجرب أكثر من مفتاح لعلّه بذلك يصل إلى الثمين المخبوء في مكنوناتها، لأنها مراوغة تتقن بذكاء لعبة الفن، وبعضها متروك لقراءة ذهنية مأمولة تنتمي لاحتمالات كثيرة ، ودلالات لها معانيها، ويمكن لنا أن “نتقرا” ونفلسف ذلك المرموز إليه في قصة “شفقة” ففيها ذلك الفهم الواسع لطبيعة من أراد أن يقتل، وحين منع من ذلك بدأ إطلاق النار نحو الأعلى.
في هذه المجموعة تتمازج أشياء كثيرة لدرجة نحسب أن صاحبها لو كتب نصاً واحداً فقط من نصوصها لكان دليلاً كافياً على براعة هذه الكتابة ومغايرتها وتميزها، وتفوقها، وابتعادها عن التسطح والابتذال، لكن السؤال الذي يقف لنا بالمرصاد، ويتركنا مع الحيرة: أي نص يا ترى ذاك الذي سيقع اختيارنا عليه؟ وفي محاولة للجواب على جزء من سؤالنا، أعتقد أن الحيرة ستعاود تسيدها مرة أخرى، لأن الشعرة الفارقة بين الجميل والأجمل تكاد لا ترى، وبينهما مكمن من مكامن الصعوبة، وربما الاستحالة.
الكاتب عبد الأمير محسن يبدو ناجياً بنجاحه وتحويل هزائم الحياة وانكساراتها إلى انتصارات صاغها بأصابع قلبه، ورعشة روحه إلى نقوش سرمدية تنمّ عن رسوخ الجبال المتجذرة والراسية في أمكنتها، والمتطاولة في شموخها نحو الأعالي لتطلّ على دروب الريح التي تهبّ عليها من كل الجهات.