واشنطن وإعادة تجريب المجرّب
أحمد حسن
كعادتها لم تجد واشنطن حلاً لوأد جنين المقاومة البازغ في شمال شرقي سورية سوى بالعودة إلى تجاربها السابقة، وهذه المرة فتحت دفتر “التجربة العراقية” الشهيرة في محاولة جديدة لتوليد جنين آخر لما اشتهر حينها باسم “الصحوات”، ولكن في بيئة مختلفة ولأسباب مختلفة وباسم مختلف أيضاً، وتلك في جوهرها قصة فشل معلن، سابق، وقائم، وقادم.
فإذا كان المنطق الكامن خلف تجربة “صحوات” العراق المعلن في ذلك الوقت -والتي جاءت وفق مندرجات “البرنامج الأمريكي لتسليح القبائل”- هو محاربة “الإرهاب”، فإن جوهره تمثّل بوضع هذه القبائل، بشبابها وإمكاناتها، في خدمة أجندة الاحتلال الفاجرة، منها مثلاً الموت عوضاً عن جنوده أصحاب “الدم الأزرق”، وبالتأكيد لا حاجة بنا للرجوع إلى قراءة مآلات هذه التجربة خاصة وأن نتائجها “الباهرة” واضحة للعيان، وما بقي منها هو بعض القصص للتاريخ، وكثير من الفوضى و”الحزازات” المجتمعية الجاهزة للاشتعال في أي لحظة، فيما بقي الإرهاب حياً وفاعلاً وبالتالي بقي المحتلّ على احتلاله، وإن بلبوس آخر يحاول “التلطي” خلفه اليوم.
وبالطبع فإن واشنطن، التي لا تريد الإقرار أن المشكلة تتمثل أولاً وقبل أي شيء آخر في الاحتلال بحد ذاته، لا تريد من “التجربة السورية الجديدة” أن تحارب الإرهاب خاصة وأنه، وفق كل الحقائق والوقائع، مموّل ومحمي منها ومن أتباعها، بل إن غايتها القصوى تأمين قدر معقول من الهدوء يتيح لها ضرب عصافير عدّة بحجر واحد، أولها، كما أسلفنا، منع استفحال عمليات المقاومة الوطنية ضد وجودها الاحتلالي بعد أن أصبحت هذه الأخيرة ظاهرة شبه مستشرية بين أبناء المكوّن الوطني، القبائلي الطابع، في المنطقة، وبعد أن وصلت نيران هذه المقاومة إلى مناطق “حسّاسة” بالنسبة للمحتلّ، وهذا المنع يتم، بحسب الأمريكي، عن طريق إغراء القبائل، وأبنائها بالمال والسلطة، “حكم ذاتي مثلا!!”، وهذا يقودنا إلى الهدف الثاني وهو إبعاد هذه القبائل عن دمشق عمقها الوطني الطبيعي، بشرياً وعقائدياً، أو بأضعف الايمان، إبقاءها بعيدة عنها ودفعها للوقوف على الحياد في معركة الاستقلال الوطني الجارية حالياً.
استطراداً، وللتذكير، والمفارقة، كانت واشنطن، وشركاءها في تدمير العراق، يطلقون على المقاومة العراقية تعبير “قوات معادية للعراقيين”!!، وكان ذلك عرفاً لغوياً ومعيارياً يستخدم رسمياً في “ائتلاف واشنطن”!!!، وتلك قصة أخرى عن التضليل الإعلامي واللعب بالكلمات و”كي الوعي” الشعبي والوطني.
أما الهدف الثالث لواشنطن من وراء هذه التحركات الأخيرة فهو تأجيج لهيب الخلاف بين أبناء المنطقة الواحدة في شمال شرق البلاد -وهي من بذر بذرته حين شجعت فصيل محدد على الاستئثار والسيطرة وصولاً إلى دعمه في خطواته على طريق الانفصال- وبالتالي إيجاد منطقة توتر دائمة ولكن تحت سيطرتها وعلى أن يكون مفتاحها، وزنادها، في يدها، وهذا ما يؤمّن لها بقاء دائماً ومطلوباً من أغلب قوى المنطقة الفاعلة -والمتصارعة في الآن ذاته- وإن أعادت تغليفه لاحقاً، أي البقاء، بعناوين براقة مثل “الاحتفاظ بمهامّ استشارية” كما فعلت في العراق مؤخراً.
بيد أن الواقع مختلف عما تخطط له واشنطن فالقبائل العربية على امتداد ساحة الوطن، وتحديداً الموجودة في تلك المنطقة، هي أم الوطنية السورية الخالصة لذلك فإنها ترفض بأغلبيتها الساحقة هذا المشروع الأمريكي الجديد، وفيما تتكفل الحجارة اليوم بطرد الدوريات الأميركية من المنطقة فإن البنادق قادمة حتماً لفعل ما تعجز عنه الحجارة لطرد المحتلّ مهما طال الزمن.