اختفاء متعمد عن الإعلام
ريا خوري
قرّر الرئيس الأمريكي جو بايدن الاختفاء قليلاً وعدم الظهور على وسائل الإعلام، لأنه سيكون تحت مرمى سهام الإعلاميين والسياسيين الذين سيعملون على محاصرته وانتقاده بشدة ومقارنة أفعاله وقراراته بالرئيس السابق دونالد ترامب.
هذا القرار جاء بعد تعرّضه لانتقادات عنيفة من قبل العديد من السياسيين والإعلاميين، وكان أحد أقوى تلك الانتقادات الموجّهة له من جانب أعضاء كبار في الحزب الجمهوري بأنه ليس مثل الرئيس السابق دونالد ترامب، وأنه يفتقد للكاريزما، وهو بلا حضور قويّ وفاعل، وشخصيته منطفئة وباهتة يكاد الناخبون ينسون وجودها. كما تناول الإعلام هذا الموضوع وتمّ التداول به على نطاق واسع، حتى أن مجلة “ناشيونال ريفيو” الأمريكية اليمينية الشعبوية نشرت تقريراً مطولاً وضعت له عنواناً لافتاً هو “الرئيس غير الموجود”.
هذا التيار السياسي بين الجمهوريين وغيرهم من الديمقراطيين يعتبر ترامب الأنموذج المطلوب لقيادة الولايات المتحدة، فالرئيس السابق كان يهوى المعارك ويخوضها مندفعاً بقوة، وكان صاخباً في سياساته وتصريحاته وكلماته النارية التي زادت من شعبيته وعداواته في وقت واحد، لكن في مجمل الأمر عادت عليه بالنفع، لأن الكثير من الأمريكيين يرون فيه الزعيم القويّ والرئيس المجابه، لأنه لم يلتزم بأي قيود أو حدود النخبة السياسية التقليدية، ولم يتقيد بأي قيود أخلاقية في معاركه ضد خصومه، حتى أن حلفاءه لم يسلموا من لسانه. ومع كل هذا فهو لم يأتِ من خلفية سياسية، ولم يكن من النخبة السياسية التقليدية، فكان مختلفاً في معظم قراراته وكلماته ومواقفه. بينما نجد الرئيس بايدن على العكس تماماً، فهو هادئ متوازن، وشخصيته تصالحية، لا يتكلم كثيراً ولا يحب الضجيج، يؤمن بالعمل الدبلوماسي، وهو ابن المؤسسة، وجاء من قلبها، ويسعى دائماً إلى مدّ جسور الثقة والتفاهم مع الجميع، وخبرته في العمل السياسي عمرها حوالي أربعين عاماً، لذلك فهو رئيس تقليدي ويسعى دائماً لترسيخ هذا المعنى.
نتيجة هذه المقارنات يراهن عدد كبير من أعضاء الحزب الجمهوري على أن التناقض بين الشخصيتين سيصبّ في مصلحتهم في النهاية، فهم يسعون إلى إقناع الرأي العام بأن بايدن ضعيف وممل، ويدللون على ذلك بضعف الإقبال الجماهيري على متابعته إعلامياً والأخذ بقراراته على محمل الجد. وعلى سبيل المثال في حديثه لشبكة الأنباء “سي إن إن” لم يزد عدد المتابعين على مليون ونصف المليون مشاهد، مقارنة بأول خطاب له أمام الكونغرس بمجلسيه حين تابعه نحو سبعة وعشرين مليون مشاهد، في حين بلغ عدد من تابعوا أول خطاب للرئيس ترامب نحو ثمانية وأربعين مليون مشاهد. وهذا يدلّ على أن الناس لا يهتمون بالرئيس، وحجتهم أن بايدن رئيس من زمن مضى، أي قبل عصر الانتشار الإعلامي وثورة الميديا والثورة الرقمية عندما كان من النادر رؤية أو سماع الرئيس.
المؤكد أن غياب بايدن الإعلامي النسبي متعمّد ومحسوب بدقة متناهية، فقد تنبّه الرئيس وفريقه الاستشاري من اللحظات الأولى لانتخابه إلى أهمية تجنّب أسلوب وتكتيكات ترامب، والابتعاد عن المشاحنات والمشاجرات. وما دامت هذه الإستراتيجية قد نجحت وأوصلته إلى البيت الأبيض وقيادة الولايات المتحدة، فلماذا يتخلى عنها الآن؟.
والمعروف أن الساسة والإعلاميين الأمريكيين يركزون على أوجه الاختلاف مع الرئيس السابق، وهي سياسة متعمدة منذ البداية لترسيخ صورة الرئيس التقليدي الرزين الذي جاء ليعيد الهدوء والأمان إلى الرئاسة، بل إلى أمريكا كلها الذي نادى بعودتها.
وعلى الرغم من كل ذلك، لا يوجد ما يضمن أن تُفرض عليه معركة من حيث لا يحتسب، وقد تضعه الأقدار في قلب عاصفة لم يتوقعها ولا يعرف من أين مصدرها. وبالعودة إلى الوراء، عندما انتخب الرئيس الأسبق جورج بوش الابن كانت الولايات المتحدة تعيش أجواء هدوء تقليدية، وكان الرئيس الجديد بلا هدف تقريباً، وشعبيته متدنية جداً، ولا أحد يتوقع منه الكثير في حلّ قضايا البلاد. ثم جاء زلزال 11 أيلول ليصبح رجل الساعة، والبطل الذي تريده الولايات المتحدة ورئيس زمن الحرب، كما سمّى نفسه، ولا أحد يعلم ما تخبئ الأيام لبايدن؟!.