العروبة في فكر القائد الأسد.. مفهوم حضاري
د. معن منيف سليمان
تعدّ العروبة في فكر السيد الرئيس بشار الأسد انتماء لا يتحدّد عن طريق الدّم أو النسب، إنما مفهوم حضاري يستوعب كل التعددية الموجودة على الأرض العربية ويجمعها في بوتقة واحدة. ومن أهم عناصر العروبة الرغبة المشتركة في العيش المشترك على الأرض المشتركة، وفي إطار تاريخي حضاري مشترك، فالعروبة ليست عرقاً، إذ لو كانت العروبة هي فقط عرق لما كان لدينا الكثير لكي نفخر به. فآخر شيء في العروبة هو العرق، لأن العروبة حالة حضارية، وهي تشتمل المصالح والتاريخ والإرادة والإرث الغني الذي يجمع بين من عاشوا على هذه الأرض، وقوة هذه العروبة هي في تنوّعها وليس في انعزالها ولونها الواحد.
لقد أسهم علماء العصر العباسي وفلاسفته في تحديد مفهوم العروبة ثقافياً وحضارياً، ففي رسائل الجاحظ مثلاً يذكر في الجزء الأول صفحة 10- 11: “إن العروبة ليست نسباً، بدلالة اختلاف نسب القحطانية والعدنانية وكلاهما عرب، واختلاف القبائل في كلٍ منهما”. فالعروبة عنده لغة وثقافة، أي عروبة حضارية بمصطلحنا المعاصر.
إن العطاءات التي أسهمت فيها جماعات من أمم عريقة، كالفرس والفراعنة والبربر والأتراك، معظمهم من المسلمين، وإن كان فيهم من أتباع الأديان الأخرى هي عربية، لا بمعنى الارتباط العرقي كما نعتقد اليوم، وإنما بوجود وعي واضح بين المسلمين في العصور الوسطى على اختلاف قومياتهم، بانتمائهم إلى حضارة عربية، قدسية المنبع، وعي عبّر عنه البيروني (973 – 1048) بقوله: “إن دولتنا وإمبراطوريتنا عربيتان وتوءمان: الأولى تحميها قوة الله، والثانية تحرسها يد السماء، فلطالما حاولت طوائف من الرعايا أن تتآلف سوية لإضفاء الصفة غير العربية على الدولة، لكنها لم تنجح في هدفها ذاك”. لقد كانت اللغة العربية بالنسبة له، هي لغة الدين والعلم.
ويشرح الدكتور ريشارد إيتنكهاوزن (أستاذ للفن الإسلامي في عدة جامعات أمريكية أبزر مؤلفاته كتاب “التصوير العربي”) بأنه مفردة “العربي” بمعناها الأشمل، لتشير إلى الحضارة العالمية لتلك الإمبراطورية التي نشأت في القرون الوسطى، وكان مصدرها الدين العربي الجديد “الإسلام”. والتي ارتبطت إلى حدّ كبير معاً برباط اللغة العربية، لغة الدين، والإدارة، والعلم، والشعر.
وفي هذا السياق، يؤكد الرئيس الأسد أن العروبة في معناها الحضاري نشأت من امتزاج أعراق واختلاط دماء في كنف حضارة شارك أبناؤها جميعاً من الروافد الإنسانية كافة في صنع قامتها الباسقة، وهي في المقام الأول رابطة ثقافية ولغوية واجتماعية صهرت العرب وغير العرب في شخصية حضارية جديدة، وهي لذلك كان لا بدّ أن تتسم بالانفتاح والتسامح والحرية والديمقراطية، لتنتج الإبداع الذي ميّزها على امتداد القرون.
وبما أن العروبة تنطوي على هذا الأفق الإنساني الرحب، ولكونها بُنيت من كلّ من أسهم في بنائها وتشكيل هذا الثراء الذي كان لها على الدوام مصدر قوة فإنها أتاحت لكل من كان تحت لوائها من الأصول غير العربية أن ينمّوا ثقافاتهم وتقاليدهم وعاداتهم، لأن في نفي ذلك إضعافاً للعروبة، وقوتنا في العروبة.
إن العروبة – كما قال الرئيس الأسد – لم تُبْنَ من قبل العرب، فالعروبة بُنيت من كل من أسهم في بنائها من الأصول غير العربية التي تشكل هذا المجتمع الغني الذي نعيش فيه، قوة العروبة بغناها، لو كانت هناك مجموعة من الأصول غير العربية وأرادت اليوم أن تغيّر تقاليدها وعاداتها أو تستغني عنها أو تذوب فسنقف في وجهها ونقول لا نقبل بهذا الأمر لأنكم تضعفون العروبة، فإذن نحن قوتنا في العروبة بالانفتاح والتنوع وإظهار مكوناتها وليس بدمجها لكي تظهر وكأنها مكوّن واحد، لأن العروبة اتهمت ظلماً عبر عقود بأنها شوفينية وهذا الكلام غير صحيح، وإذا كان هناك شخص شوفيني لا يعني بأن العروبة شوفينية، بل هي حالة حضارية.
العروبة الحضارية هي هوية ثقافية لغوية، وهي هوية منفتحة على التنوع والتفاعل، ومرونتها سر قوتها، فهي تبقى عروبة، وتبقى هوية لا نبقى كأمة من دونها، فالعروبة الحضارية لا تعني التخلي عن الهوية، بل تعني شمولها أطراً أوسع، ووضعها على مسار يتيح لها التطور مع الزمن، وهذا ما أكده القائد الأسد بقوله: “إن العروبة مفهوم حضاري شامل لكل الأعراق والأديان والطوائف، وهي حالة حضارية أسهم فيها كل من وجِد في هذه المنطقة دون استثناء، واللغة العربية والقومية العربية هما الجامع لكل تلك الأعراق والطوائف والأديان، وبالوقت نفسه تحافظان على خصوصية كل واحدة منها”.
إن أهم عامل من عوامل الانتماء الذي تشكّله العروبة هو اللغة من حيث كونها منبعاً للتعبير عن المشترك والوجدان والمشاعر والعقل وصناعة الآداب والفنون والعلوم، وشدّ أواصر الترابط في كتلة بشرية ذات أبعاد موحدة يسودها التنوع والخصوصية والتعدّد والأديان والمعتقدات، وكل ذلك في ظل لغة تهب هذه الأمة جذراً عميقاً من الجذور الروحية لدى الناطقين بها بحيث إن أي فقر أو غنى يصيب العروبة إنما يصيب لغتها.
والعروبة بالنسبة لسورية ليست شعاراً بل هي ممارسة، لطالما أن سورية قدمت الكثير للقضايا القومية عامة وللقضية الفلسطينية خاصة وما زالت، كما قدمت الكثير للتعريب في كل مكان، فالقضية القومية بالنسبة لسورية ليست شعاراً، وإذا كان البعض سعى لتعليق عروبة سورية في الجامعة العربية إنما علّق عروبة الجامعة ولا يستطيع تعليق عروبة سورية. فلا يستطيع أحد إخراج سورية من العروبة لأن العروبة ليست قراراً سياسياً، بل هي تراث وتاريخ، وسورية تكون أكثر حرية في ممارسة عروبتها الحقيقية والصافية التي كان المواطن السوري أفضل من يعبّر عنها عبر تاريخه.
إن العلاقة بين العروبة والوطنية هي علاقة وثيقة وضرورية للمستقبل وللمصالح، فالعروبة هي انتماء لا عضوية، هي هوية يمنحها التاريخ لا شهادة تمنحها منظمة. العروبة هي شرف يتمثل بالشعوب العربية في مختلف الأقطار العربية وليست عاراً يحمله البعض من المستعربين على الساحات السياسية في العالم أو في الوطن العربي. وقد أكد الرئيس الأسد على أن “العروبة ستبقى عنواناً لانتمائنا وملاذاً لنا في الملمات كما سنبقى قلبها النابض بالمحبة والعنفوان”.
إن تفكيك هذه الهوية هو الذي يؤدي إلى الهزيمة الفعلية التي لم تحققها الحروب المتكررة، بل يحققها تدمير بنية المجتمع الذي أنتج منظومات المقاومة الاجتماعية والثقافية. قال الرئيس الأسد: إن “ضرب الانتماء القومي يعني ضرب خط الدفاع الأول الذي نمتلكه كمجتمع في وجه أية محاولات لغزو ثقافي أو فكري يهدف إلى تحويلنا إلى مجرد آلات مسلوبة الإرادة نتحرك وفق ما يخطّط لنا من الخارج”.
وتؤكد التطورات والأحداث أن العروبة هي الحلّ لكل قضايا العرب الراهنة سواء على المستوى السياسي أو على المستوى التنموي. فالفكر العروبي فكر كلّي وشامل، أما غيره من الأفكار، سواء كانت إثنية أم عرقية أم فئوية أم دينية، فإن كلاً منها يختص بفئة معينة دون غيرها. لذلك فإن مصير هذه الأمة في وحدتها، التي تبدأ بوحدة العمل ووحدة التوجّه والتضامن، العروبة التي تعبّر عن أحلام شعبنا العربي وطموحاته، وتؤسّس لمستقبل تتحقق فيه قوة هذه الأمة، وتتعزّز مساهمتها العميقة في صناعة تاريخ بشري يسوده التقدم والعدالة والسلام، ولا يجوز أن تكون العروبة أيديولوجية فقط، بل يجب تفهمها كإطار حضاري.
وهكذا فإن عروبتنا ليست عروبةً عنصريةً أو شوفينية، ومقولة “الصفاء العرقي” لأية أمة مقولة غير علمية، ولذلك فإن أهمية تحديد العروبة كهوية على أساس غير عِرقي، وغير مغلق سلالياً، تكمن في رسالة الانفتاح والاستعداد لتقبّل الاختلاف، الذي لا يعني الخلاف بالضرورة، داخل المجتمع العربي، وتكمن بدرجة أكبر في الاستعداد للتفاعل النديّ والأخذ والعطاء مع الثقافات والحضارات غير العربية.