المالتوسية الجديدة
ناظم مهنا
وضع الباحث الاقتصادي توماس روبرت مالتوس (1766 – 1834) نظريته للحدّ من النمو السكاني بإشعال الحروب في أماكن عديدة من العالم، من منطلق أن الموارد والثروات قابلة للنفاد وغير كافية، وعلى الرغم من أن النظرية لم تلقَ استجابة كبيرة عند علماء الاجتماع في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل تعرّضت للتسفيه بكونها غير أخلاقية، ولكن اعتاد البشر أن يتصرفوا عكس ما يقولون!. فالحروب المتلاحقة والمتناوبة لم تتوقف إلا برهة قصيرة من الزمن، تشبه استراحة المحارب الجريح الذي يحصل على نقاهة قصيرة ثم يعود إلى الساحات أشدّ ضراوة، حتى ليصح أن يقال عن الإنسان إنه حيوان محارب ومدجّج بالخطط الحربية والأسلحة الفتاكة!.
اليوم تبرز على السطح النظرية المالتوسية من جديد أكثر من أي نظرية أخرى، كأن الروح الحربية عند البشر أكثر أصالة من روح السلام على ما يبدو، ففي الوقت الذي تسفَّه فيه نظريات العدالة الاجتماعية تتقدم نظريات سطحية وعنصرية بل إجرامية، يسوقها منظرون اقتصاديون وموظفو شركات صناعة السلاح ورجال أعمال، فيتحدثون عن: “المليار الذهبي” و”حروب الجيل الرابع” و”الحروب بالوكالة” وبلا كلفة، حتى يقال إن عصابة من الأشرار تدير العالم، ولا تتردّد في أن تذهب به إلى الهلاك أو الفناء، بدافع البطر واللهو والأنانية!.
في بدايات القرن الماضي كتب العلامة الكبير جرجي زيدان مقالاً بعنوان: “هل تبطل الحرب من الأرض؟” جاء فيه: “مهما بلغ شأن هذه المدنية من الارتقاء بكثرة الاختراعات والاكتشافات، ومهما تربع أصحابها على الفراش الوثير وركبوا البخار واستضاؤوا بالكهربائية ومهما أنشأوا من الصحف وألفوا من الجمعيات والنوادي أو الأحزاب، ونادوا بالحرية والاستقلال، فلا يغرك دفاعهم عن الفرد وسعيهم في تحرير الرقيق، فإنهم مهما يكن من أمرهم، ما يزالون بعيدين عن المدنية الصحيحة، ما دام فيهم الميل إلى الحرب”.
أما الذين يحسنون الظن بالنظام الدولي، يبدون اليوم جماعة من السذَّج الفاقدين للذاكرة القريبة والبعيدة! فالعالم لم تغيّره المدنية المزعومة، وهذا موقف كبار المفكرين المناهضين للسلوك العدواني والحرب في حضارة البشرية التي ما انفكت تمجّد الحروب ورجالاتها على حساب الفلاسفة والشعراء والحكماء!، والغريب أن الشعراء والفلاسفة أنفسهم منحوا هؤلاء المحاربين هذا المجد والخلود منذ ما قبل الاسكندر المقدوني مروراً بيوليوس قيصر، وليس انتهاء بنابليون!. فما هذه الثقافة التي يتناقض فيها أعلامها مع أنفسهم؟! هاهو المتنبي مثال على هذا التناقض، في الوقت الذي يمجد السيف والحرب في مرات كثيرة يقول في لحظة صحو:
“كلما انبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن نتعادى فيه وأن نتفانى..”
لابد أن البشر حتى المعتوهين منهم، يعرفون أهوال الحروب وفظاعتها، ولكنهم يمضون إليها كالعميان، وفاقدي البصيرة! وقد تكون أسباب الحروب على الأغلب تافهة لا تستحق أن يسفك من أجلها نقطة دم، أليس عجيباً أمر هذا العالم الذي يهوى الرقص الدائم على البارود، ويتقزّز من الأشلاء والخراب الذي يراه أمامه، ولا يفعل شيئاً لوقفه؟! أم أنه ترك قياده لسحرة شياطين يلعبون به كيفما اتفق، هؤلاء السحرة يشعلون الحروب في كل مكان يجدون فيه قابلية، ثم يهرعون كملائكة الرحمة للتدخل بحجة المساعدة!.
المالتوسيون الجدد، مشعلو الحروب بكل أشكالها: الدينية والعرقية والقومية والأهلية.. بدافع الهيمنة، وتقاسم النفوذ ووضع اليد على الموارد وتجارة السلاح، وإعادة الإعمار لتنشيط الدورة الاقتصادية في بلدانهم، ولتخفيض عدد سكان الأرض من شعوب الدول الفقيرة.. هؤلاء خطرون على الجنس البشري وعلى الحضارة الإنسانية.