مضاد حيوي روحي
غالية خوجة
الفنون البصرية والسمعية والمكتوبة والحركية والدرامية دواء من لا دواء له، لأنها مضاد حيوي روحي تأثيره ليس آنياً، بل ديمومياً، سواء كان المرض نفسياً أو جسدياً.
ولأهمية هذا العلاج الفني اعتمد أشهر علماء النفس الرسم مع المرضى ومنهم يونغ، لأن الألوان والرسوم تعبّر عن العقل الباطن الذي يبدو أثره بالألوان والخطوط والتشكيلات والرموز، وكذلك الموسيقا ومفعولها السحري على الصعيد الفردي والاجتماعي، مما دفع شرطة إحدى المدن الأجنبية إلى الاستعانة بموسيقا “بيتهوفن” في علاج حي مشهور بالجريمة.
ولا تقل القراءة بمفعولها التفاعلي عن هذا العلاج، وكذلك الكتابة بكافة أجناسها، مما يساهم في تخفيف الضغط العام للذات، وانطلاق الروح إلى عوالم أوسع من العالم المحدود، لأن الإنسان مخلوق مصغّر عن الكون: “وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.
أيضاً، مشاهدة الأعمال البصرية مثل الفن التشكيلي وما تمنحه من تأثيرات ومؤثرات تحرك الهالة المحيطة بالإنسان، مما يجعلها تساهم في إعادة التوازن إلى الخلل الحاصل في هذه الهالات.
وتلعب المسرحيات والأعمال السينمائية والتلفازية المناسبة دورها في التأثير على الإنسان من خلال اختياراته لما يشاهده، إضافة إلى مؤثرات الألوان وعناصر السينوغرافيا.
والألوان بحد ذاتها تشكّل علاجاً حيوياً للذات وهالاتها وتغيير طريقة التفكير من سوداء متشائمة مكتئبة إلى حالة ملونة متفائلة، سواء كانت الألوان التي نرسمها أو نشاهدها، على أن لا ننسى ألوان الطبيعة كأفضل علاج للروح، لا سيما لون الأشجار والأعشاب والسماء، ولون الأشعة الشمسية والقمرية وتدرجاتها على البيئة، وظلالها من خلال الأشياء والموجودات.
وتتكامل منظومة العلاج مع صوت المياه كموسيقا مثل خرير النهر أو نغمات المطر أو حركة الماء في النوافير، أو موجات البحر.
العلاج بالبيئة قوة أخرى تمتصها أرواحنا فتتخلّص من الشوائب، وتتفتّح معها أجسادنا مثل الورود، ويستعيد العقل حيويته الديناميكية ليجدد خلاياه بعيداً عن الحزن والكآبة والخرف، مما يجعلنا نغربل صدأنا الداخلي.
البيئة تجذبنا إلى أعماقها في الأرياف والجبال والسواحل والصحارى، وتساعدنا على التأمل والانتفاض على مزاجنا الذي يصاب يالألوان الرمادية والسوداء، مما يجعلنا بكلّيتنا أشبه بالنهر الذي يمضي دون أن يكرر ماءه مرتين، وهذا يعني أننا نشبه الزمن، لأن الزمن “نهر لا يكرر مياهه مرتين” كما قال، ذاتَ حكمة، الفيلسوف أرسطو.
الإبداع عالم من النقاء بأوكسجين خاص، وموسيقا خاصة تنبع حتى من الصمت، لأن الصمت لغة تتكلم، تحاور، تتأمل، تصخب، تهدأ، تتلون، تحكي، تتخيّل، ونحن نحتاج إلى لحظة تخطفنا من فوضى الضجيج الداخلي والخارجي، لنسبح مثل الفراشات مع الأشعة الذهبية والفضية، ونطير إلى الكواكب والمجرات وحواف الكون، لتمتلئ قلوبنا بدم أكثر نقاء ومحبة، وتتشبّع عيوننا بنور العالم المتسرب من الأعالي إلى أعماقنا، ومن أعماقنا إلى الأعالي، وهذا ما تساعدنا عليه الصلوات التنفسية والعادية، وهذا ما اكتشفته “التاوية”، ورياضة “اليوغا”، والرقص المولوي الصوفي والإنشادي. وهذا ما تمنحه الرياضة بشكل عام عندما تتعانق مع الأشعة الروحية والفكرية فلا تبقى جسدية، ومنها المشي، لدرجة أن صفة المشائين أُطلقت على بعض بعض الفلاسفة، لما يمنحه المشي من حالة تنشيطية تفاعلية للعقل والجسد معاً، إضافة إلى السباحة والغوص والجمباز والرقص الراقي ومنه “الباليه”. فماذا لو استمعنا لأنفسنا من خلال الإبداع ومنها البيئة ومعارض الفن التشكيلي ومعارض الكتب؟ وماذا لو تعرفنا إلى أرواحنا من خلال الرياضة العقلية والجسدية؟ وماذا لو سبحنا مع قصيدة شعرية، وتدربنا على الغوص مع القراءة والعلوم والمعارف واللوحات والمنحوتات والأشجار والجبال والأرياف والبراري؟