دراساتصحيفة البعث

الأبعاد الإستراتيجية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان

الدراسات 

منذ إعلان الانسحاب الكبير، تتعامل الدول المحيطة بأفغانستان بحذر مع الوضع الجيوستراتيجي الجديد بعد الانسحاب الأمريكي، ومع ما يمكن أن يحدث من تداعيات غير محسوبة. هذه التداعيات ربما يكون في جوهرها الدور الخفيّ الذي ستلعبه الولايات المتحدة مع الدول المحيطة بأفغانستان، وتحديداً روسيا والصين وإيران، خاصةً وأن الإدارة الأمريكية تركت مع البعثة الدبلوماسية الضخمة وحدات أمنية وعسكرية، ما يعني أن واشنطن، كما يبدو، سيكون لها دور فاعل جداً داخل أفغانستان أو مع الدول المحيطة.

المفاجأة الأولى، عقب القرار الأمريكي، أتت من موقف حركة “طالبان” إزاء الدول المجاورة، وتحديداً الدول الثلاث التي تستهدفها واشنطن، وكأن الحركة تريد إرسال رسالة مفادها أن “طالبان” تتفهم حذر وخشية الدول الثلاث من أية تداعيات قد تنشأ على الحدود الخارجية لأفغانستان، لكن المفاجأة الأكبر تمثلت بالموقف الاستيعابي الذكي لهذه الدول. على سبيل المثال، راهنت إدارة بايدن على خلاف واشتباك إيراني – طالباني، على خلفية مذهبية أو حدودية تاريخية، لكنّ ذلك لم يحدث، بل على العكس، برهنت طهران، وبسرعة، على إستراتيجية حكيمة في التعامل بواقعيّة مع نفوذ الحركة الحالي القوي، والمرتقب أنه سيكون أقوى. كما استقبلت موسكو وفود “طالبان” -على الرغم من أن الحركة محظورة في روسيا – وتمّ التباحث في كل المواضيع المشتركة. ولناحية الصين، لم يتأخر متابعون في فهم الموقف الصيني الداعم لحركة “طالبان”، والذي قوبل من الأخيرة بموقف مماثل.

لا شك أن قرار الانسحاب جاء ثمرة مراجعات مكثفة من دوائر القرار السياسي الأميركي، عقب تيقنهم من حقيقة سياسة الصين في عهد رئيسها، شي جين بينغ، بتأكيده تخصيص موارد متعدّدة لتعزيز القوات العسكرية في مواجهة الأساطيل الأميركية. أما روسيا، الخصم الدائم لأميركا، فقد حذرت واشنطن بشدة من تنامي قوتها العسكرية، كما رأت وثيقة “إستراتيجية الأمن القومي” في العام 2017، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

لذلك هذا الانسحاب يأتي ضمن الأبعاد الإستراتيجية الأميركية في المدى المنظور لتوجيه الموارد الأميركية نحو الصين وروسيا وإيران. وقد أوضح الرئيس بايدن توجّهات بلاده – تم نشرها على موقع “ذي أتلانتيك” في 25 تموز 2021 – بأن الحاجة هي لإعادة توجيه اهتمام الولايات المتحدة وقدراتها إلى أولويات السياسة الخارجية الأميركية الأكثر إلحاحاً، وعلى رأسها المنافسة الشديدة مع الصين، ومواجهة التحديات الناجمة عن مبادرة “الحزام والطريق”.

في المقابل، منذ أن أعلن بايدن قرار الانسحاب، لم تخفِ روسيا قلقها من احتمالات انفجار الوضع الأمني في أفغانستان، وهو ما قد تستغله المجموعات الإرهابية المختلفة. ولهذا الغرض، أعلن الجيش الروسي اختبار جهوزية منظومات صواريخ “إس- 300” المضادة للأهداف الجوية في القاعدة الروسية في طاجيكستان، وأجرى الرئيس بوتين اتصالات هاتفية مع نظيره الأوزبكستاني شوكت مير ضيائف، وبحث معه تفاصيل التنسيق والتعاون المشترك لمواجهة التطورات المحتملة في أفغانستان، وخاصةً مع تعزيز تنظيم “داعش” الإرهابي وجوده في الأجزاء الشمالية من أفغانستان قرب الحدود مع حلفاء روسيا، ناهيك عن نشاط حزب “التحرير” الإسلامي، الذي ينشط أساساً في جمهوريات الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الفيدرالية.

ولا يخفى على أحد أن من بين أهم أسباب قرار انسحاب واشنطن أن تُبتلى روسيا من جديد بأفغانستان، مع الفارق أن تركيا كانت آنذاك على الحياد، أما اليوم فستكون طرفاً مباشراً، كما هي الحال في العديد من الجبهات في سورية إلى ليبيا وناغورنو كاراباخ. والآن، يتوقّع أن تنقل تركيا إرهابييها إلى أفغانستان، وهو ما قد تفعله أميركا بنقل ما لديها من معتقلي “داعش” في سورية والعراق إلى أفغانستان.

أما في المشهد الإيراني، منذ احتلال أفغانستان كان الهدف الثابت لواشنطن هو إبعاد إيران عن التأثير في المشهد الأفغاني، لكن طهران قلبت المعادلة حين استضافت ممثلين عن حكومة كابول وحركة “طالبان” لتقريب وجهات النظر، بهدف إبعاد شبح الحرب الأهلية، وهو ما دفع الدوائر الأميركية لإبداء قلقها من إمكانية انضمام أفغانستان إلى محور إيران في مرحلة لاحقة، وخصوصاً بعد إعلان “طالبان” سيطرتها على معبر “إسلام قلعة” أهم معبر حدودي مع إيران. لكن رغم ذلك، تراقب إيران التي تجمعها مع أفغانستان حدود مشتركة بطول 936 كم، وباكستان بطول 909 كم، وتركمانستان 992 كم، التطورات الأفغانية عن كثب.

وأمام هذه المعطيات، وما تشهده الساحة الأفغانية من أحداث متسارعة من الضرورة بمكان على الدول الثلاث المستهدفة من وراء الانسحاب الأمريكي أن تأخذ في حسبانها هذه التطورات وانعكاساتها المباشرة، لأن الوقائع – حتى الآن – تشير جميعها إلى أن أفغانستان ذاهبة باتجاه حرب مركبة داخلية وخارجية، وربما تعود القوات الأمريكية وحلفاؤها لتأسيس قواعد عسكرية على خلاف ما اتبعته في العشرين سنة الماضية، وهذه القواعد قد تكون على حدود الدول الثلاث المستهدفة مباشرة.