كمشة أمل في صون الألوان
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
في ليالي تشرين، ونقرات المطر على الشباك، وعواء الرياح المخيف وهي تحاول التسلل عبر فتحات الشبابيك، يحلو لجداتنا أن يحكين لنا قصصاً عن أميرات مسحورات تم اختطافهن عن طريق مارد ما، أو غول شرير، وكيف ينبري البطل لإنقاذهن كل حين، وعواء الريح ما هو إلا قطيع من الذئاب الفضية التي ترافق المارد كجيش من الأعوان لإخافة الأطفال، ولكن الشجعان منهم يستطيعون النيل من المارد وقطيع ذئابه وتحرير الأميرة المسحورة.
رحل طقس الحكايات.. أجده في أطفالنا = والتقانات تسلبهم زهو الحكاية وطقوس الاستماع لها – أنجح قليلاً في جذب آذانهم الصغيرة للحكاية، وحتى حين أحقق انتصاراً وتكتمل حكايتي إلى آخر فصل فيها، فليس هناك شغفنا الطفولي في سماعها في اليوم التالي، مرة ثانية وثالثة.. مأزق الحكاية كمأزق الصورة الطفولية وفن الرسوم الموجهة للأطفال، فمن تجربة شخصية أقول إنني فشلت بشكل ذريع في “تحبيب” الأطفال من حولي بأن يشاهدوا تلك المسلسلات والرسوم الكارتونية التي تربينا عليها، وهي مستمدة من أهم الحكايات العالمية والأدب العالمي العريق.. الصورة باتت متسارعة في نظرهم، والحركة والإبهار البصري ساد بشكل كبير على الحكاية، فترى أن التسطيح الفج للقيم، والإغراق في الحركة والعنف والمطاردات، وملاحقة سلاسل دموية عنيفة، هو الهم الأكبر للشريحة الأعظم من أطفالنا. ويقودني هذا للتشعب طويلاً في هوية الثقافة السورية وصناعتها كالأفلام والرسوم المتحركة والمنتجات المطبوعة لأطفالنا، ما لها وماعليها، لكني سأكتفي بإثارة موضوع ذي شجون وغصة عميقة، عن رسامي قصص الأطفال، واستمرار فنهم، وتعاقب الأجيال في هذه الصناعة العظيمة لذائقتنا الجمعية وثقافتها النبيلة. يرحل عمالقة الفن الطفلي في العالم ويبقى أثرهم جلياً في تلامذتهم، يبقى في نهجهم المتبع الذي أورثوه حملة شعلة الإبداع، من متدربين وعاشقين لدرب معلمهم الملهم.
هياو ميازاكي حين أسس استوديو جيبلي كان قد قرر بينه وبين نفسه أن حبل الفن السري الخاص به لابد أن يستمر ويبقى جيلاً بعد جيل يتوارثه أبناؤه وتلاميذه ومحبوه كما يتوارثون دواة حبره وريشته المعدنية ومزاجة ألوانه.
النقاد الفنيون والمتابعون والفنانون في العالم، حين شاهدوا فيلم الرسوم المتحركة، قصة “القزمة الصغيرة أرييتي”، الصادر عن استوديو جيبلي، ظنوا جميعاً أن ميازاكي كان بطل الفيلم الأول رسماً وإخراجا وتصميماً وكتابة سيناريو، لكن المذهل أن الذي قام بهذا العمل – وبنفس النسخة الكربونية من روح الإبداع الخاصة بالمعلم – كان تلامذته ورفاقه وشركاؤه في الحلم.
في سورية، يرحل الكبار من صناع فن القصة الطفلية تباعاً، يرحلون ويُلفّ معهم ورق لوحاتهم وأصباغ ألوانهم، وترحل قيمة التجربة وتفاصيل العلم والفن الذي في صدورهم.. بقي لنا من ممتاز البحرة ونذير نبعة وطه الخالدي وأمجد الغازي وأنور دياب، والعديد غيرهم، لوحات مبعثرة هنا، وتفاصيل صغيرة هناك.. لم يبق في صدور محبي فن الأطفال في سورية جلسة تعلم ارتادوها في ورش عمل أو معاهد أو ملتقيات لهؤلاء الراحلين!!
ما المانع أن يكون لدينا معهد عال لفن الرسم للأطفال؟ وتكون له خطة وطنية ناظمة وكتب ومناهج تدريسية مستمدة من تجارب وخبرات العالم وفنانيه في هذا المضمار؟ ويكون أساتذته ممن امتهنوا هذه الدرب، وتخرجوا من كليات الفنون ومعاهد الفن التشكيلي، وخضعوا لدورات أكاديمية في الخارج، ليعودوا لنا بخلاصات تجارب الآخرين في فن الطفولة؟
من المؤلم ألا نجد معرضاً سنوياً دائماً للوحة الطفل السورية، ولا ورش العمل الدائمة المفتوحة لفناني هذا المجال، ولا نجد معهداً أو كلية لتعليم أصول الرسوم المتحركة في سورية.
كيف سيستمر فن الكوميك السوري والفنانون المشتغلون في هذا المجال باتوا يعدون على أصابع اليد الواحدة؟ وإن كان ثمة مئات الموهوبين والمشتغلين على تجارب ذاتية لأنفسهم، فكيف السبيل للوصول إليهم ودعمهم واستقطابهم لصناعة منهج حقيقي لفن اللوحة؟
الخطر الأكبر أن العالم كله، وخصوصاً الدول المحيطة بنا، تعرف بيقين راسخ كعب الفنان السوري العالي في مجال لوحة الطفل، فتستقطبه بالمغريات المادية والمعنوية والتقديرية ليصب نتاجه خارج حدود الجغرافية السورية وخارج مكتبات طفلنا السوري.
الحاجة والأزمة تجترح المعجزات
يقول المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي في كتبه عن أسس الحضارة: “أعطني مقومات ثلاثة: تراب وإنسان وزمن، أعطيك حضارة”. ولنا أن نفخر في هذا الوطن العظيم أن مقومات هذه الحضارة المنشودة موجودة، وفي مفصل فناني قصص الأطفال هي موجودة، ومن الطراز النادر والبهيّ؛ ونحتاج فقط ليد الرعاية والاهتمام وتبني القرارات المتعلقة بدعم هؤلاء الشباب وإفساح المجال لهم لتفجير طاقاتهم. وسيكون لنا، بعد 5 أعوام من الآن، أفلام رسوم متحركة سورية ومسلسلات كارتونية وقصص وكتب ومجلات لا تعد ولا تحصى، ولن نعدم الوسيلة، ولن نكل أو نمل في المطالبة بتحقيق هذا الأمر.. فنانو رسوم الأطفال في سورية يستحقون كل الدعم والرعاية والاهتمام، لأنهم أبطال الخندق الأول والتماس المباشر مع صناعة مستقبل أطفالنا.
يقول شكسبير: “الإصرار على التفاؤل قد يصنع ما كان مستحيلاً”.