كيف نفهم منهجية خطاب الرئيس الأسد
د. مهدي دخل الله
يركز المتابعون والمحللون عادة على المضامين والقضايا المحددة في كلمات الرؤساء والزعماء السياسيين ، ونادراً ما يتطرقون إلى منهج تفكير هؤلاء وأسلوب رؤيتهم للواقع وطرائق معالجة قضاياه ..
وغالباً ، إما أن يكون خطاب السياسيين تعبوياً وحماسياً ، يصل عند المبالغة إلى الشعاراتية والديماغوجية ، وإما أن يغوص في التحليل الفكري الخالص واستخدام الأدوات الأكاديمية فيغرق عند المبالغة في التجريد والافتراض بعيداً عن الواقع ..
خطاب الأسد مختلف تماماً عن هذا وذاك .. مستنده راسخ في المبدئية الواقعية وفق المنهج النقدي . هو خطاب يخضع للفكر لكنه يعيد صياغة الفكر وفق متطلبات الواقع .. ليس هذا منهجاً سهلاً .. لكنه مفيد في التعامل مع طروحات وقضايا يطرحها الواقع بعيداً عن شطحات الفكر الخالص ومشاعر الرغبة المستندة إلى الإيديولوجية المسبقة ..
يمكن فوراً عزل المنطلقات الفكرية التي لا تستجيب لحاجات الواقع ومتطلباته ، أو إعادة صياغة هذه المنطلقات بما يجعلها عاملاً تغييرياً في مسار التاريخ ..
واقعية المنهج النقدي هي في أنه يستنبط الفكر من فهمه العميق لبنية الواقع . والبنية هي مجموعة من العناصر المترابطة والمتفاعلة فيما بينها . اكتشاف هذه البنية ومعرفة ترتيب عناصرها هو أساس المبدئية الواقعية ..
يقول الرئيس : ” المطلوب هو العقل .. لأن العقل تحليل وفلسفة .. الفلسفة هي القدرة على التفكيك والتحليل والتركيب ” . هذا يعني أن فهمك الظواهر بحاجة لتفكيكها ثم تحليل عناصرها وأخيراً إعادة تركيبها كي تخدم مسار التقدم ..
العناصر الأساسية هي جوهر الظاهرة ، وعند اكتشافها نتأكد بأن جوهر الكون جوهر متحول ومتغير ، وإذا أردت التأثير والتوجيه فعليك أن تؤمن بالتغيير . دائماً يتحدث الرئيس الأسد عن : الأصل .. الجوهر .. السبب . معرفة الجوهر ضروري لفهم الظاهر ، ومعرفة السبب ضروري لفهم النتيجة .. والهدف دائماً هو التغيير وهذا هو المنهج النقدي ..
عام 2000 ، في خطاب القسم الأول ، طرح الأسد منهجاً محدداً لفهم الواقع وطرائق تغييره ومعالجة قضاياه . بعد ذلك قال في مجلس الشعب ، عام 2001 ، بأنه أراد من خطابه بأن يفهم الناس الطريقة التي يفكر هو بها ..
حتى اليوم ، مازال الأسد متمسكاً بـ ” طريقة التفكير ” هذه ، أي بالمنهج الذي يستخدمه أداة لفهم الواقع والتعامل معه تعاملاً تغييرياً . بل نلاحظ أن الأسد واظب على تنمية هذا المنهج وتطويره لدرجة أن المتابع يستطيع مشاهدة خطوطه واضحة في أي خطاب من خطاباته وكلماته ..
لدينا ثلاث ” عينات ” لهذا المنهج مؤخراً . خطابه في افتتاح مركز البحوث الإسلامية ، وخطابه الأخير أثناء أدائه القسم الدستوري ، ثم كلمته التوجيهية المحددة للحكومة أول أمس ..
عملنا في القيادة المركزية على تعريف الرأي العام بالخطوط العامة لهذا المنهج في قراءتين موجزتين : الأولى حول كلمته في افتتاح مركز البحوث الإسلامية ( بعنوان المنهج والرؤى ) ، والثانية حول خطاب القسم بعنوان ( مسار التحرير والمسامحة والبناء الاقتصادي والإداري )، والقراءتان متوافرتان لمن شاء في القيادة ، وفي دار البعث ..
الخطاب هنا دائماً يجمع بين الطروحات المحددة والمرجعية الفكرية ، بين كشف الجوهر ورسم طرق المعالجة ، بين الفهم العميق والتعبير البسيط . والهدف هو تعزيز مسار التقدم في ظروف صعبة وقاسية ..
في توجيهاته للحكومة أكد الرئيس الأسد على قاعدة محورية ومعيارية ، هي رؤية الأمور كلها ، بما فيها التفاصيل ، بشكل منهجي . والمنهج أداة لمعرفة الجوهر لأن هذه المعرفة تفسر كل شيء ..
قاعدة منهجية أخرى أكد عليها ، بأن يكون الحوار موضوعياً والنقد موضوعياً .. ولا يمكن أن يكون النقد موضوعياً إلا استناداً إلى المعرفة .. معرفة الجوهر ..
قاعدة منهجية ثالثة هي ضرورة أن يكون التغيير إلى الأمام ، لا إلى الخلف . وقاعدة رابعة هي ترابط أجزاء العمل الوطني في مكون واحد ، فالمركزية قد تعرقل التقدم إذ لابد من ” توزيع الصلاحيات ” ، وتعزيز دور ” الإدارات المحلية ” ، وفق تعبير الأسد ..
ولقد حدد الرئيس المسألة التي لها أولوية في إطارها العام وهي النهضة الاقتصادية ، أو كما أسماها ” الإنتاج وفرص العمل ” ، بعد أن أكد أن الأولوية سابقاً كانت للقضايا الأمنية . وهذا يشير إلى أننا في مرحلة جديدة بنيت على نتائج المرحلة السابقة ..
ثم تحدث عن القضايا المحددة والتي أسماها ” عناوين ” وطرق معالجتها بما يضع أمام الحكومة خطاً واضحاً يتطلب تركيز جهودهم بشكل مناسب ..