السينما المصرية نطقت لكي تغنّي
“البعث الأسبوعية” ــ المحررة الثقافية
عرفت السينما المصرية طريقها إلى الوجود أواخر العشرينيات من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1927، وقد اعتمدت في بداياتها على عدد من أساطين الموسيقا والغناء لمنحها جواز السفر إلى الناس، فقدمت أفلاماً غنائية تُعدّ اليوم من روائع السينما المصرية التي أثرت في التراث السينمائي وشكلت ركناً أساسياً في قائمة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
لولا الغناء لظلت السينما صامتة
يؤكد الناقد المصري سمير فريد أن السينما المصرية نطقت لكي تغني، وأنه لولا الغناء لظلت السينما صامتة، فأول فيلم مصري ناطق هو فيلم “أنشودة الفؤاد”، عام 1931، كان فيلماً غنائياً، وبقي نصف الأفلام المصرية حتى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات غنائيا، ولا يخلو النصف الآخر من الأغاني، حيث لا يكاد يوجد فيلم مصري يخلو من أغنية أو رقصة، وهي أفلام ساهمت – برأيه – في تطوير الغناء المصري بما يناسب اللغة السينمائية، واحتفظت لنا بصور كبار المطربين والمطربات في مراحل حياتهم الفنية المختلفة، مبيناً أن أشهر نجوم الغناء في مصر ساهموا في تقديم الفيلم الغنائي، وهم: محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، ليلى مراد، فريد الأطرش، أسمهان، محمد فوزي، نور الهدى في الثلاثينيات والأربعينيات، وشادية، صباح، هدى سلطان، عبدالحليم حافظ، نجاة، فايزة أحمد في الخمسينيات والستينيات، مؤكداً أن نجوم الغناء لم ينجحوا دائماً في السينما، فأفلام نجاة وفايزة أحمد كانت قليلة وفاشلة، في حين أن أفلام شادية وصباح وهدى سلطان ناجحة، ولم تحقق ما حققته من نجاح بسبب الأغاني فقط، وإنما لما تتمتع به كل منهن من قدرات تمثيلية في نفس الوقت؛ أما النجاح الكبير لأفلام محمد عبدالوهاب وأم كلثوم في الثلاثينيات والأربعينيات فلم يمنعهما من التوقف عن العمل في السينما وهما في ذروة النجاح، ليس لشعورهما أن جمهور السينما قد تغير ولم يعد يقبل على الأفلام لكي يستمع للأغاني فقط، بل لقناعة بأنهما كانا فاشلين في التمثيل تماماً. ويرى سمير فريد أن أنجح الأفلام الغنائية لنجوم الغناء كان أفلام ليلى مراد، محمد فوزي، عبدالحليم حافظ، فريد الأطرش، محمد فوزي ومحاولاتهم تطوير الفيلم الغنائي المصري وذلك بتقديمهم استعراضات وأوبريتات غنائية راقصة مما جعلهم يقتربون من الفيلم الموسيقي.
أنشودة الفؤاد
في العام 1932، تم تقديم فيلم “أنشودة الفؤاد” (إخراج ماريو فولبي، سيناريو استيفان روستي وإدمون نحاس، حوار خليل مطران)، وهو أول فيلم غنائي مصري، ويُعدّ من أوائل الأفلام الناطقة وقام بالتمثيل فيه كل من جورج أبيض، وعبدالرحمن رشدي، ونادرة أمين، وزكريا أحمد. وفي الفيلم، قدمت المطربة نادرة عدداً من الأغاني، مثل: “أمسعدي”، “يا بحر النيل”، “يا غالي”، و”أنشودة الفؤاد”. وبعد ذلك بعام واحد، ترسخت هذه الولادة وشهدت الانطلاقة الكبرى للسينما الغنائية العربية بظهور ثاني الأفلام الغنائية العربية “الوردة البيضاء” (ألحان وغناء محمد عبد الوهاب)، في حين قَدَّمَت في العام 1935 سلطانة الطرب منيرة المهدية فيلم “الغندورة” (إخراج ماريو فولبي). وفي العام نفسه قَدَّم محمد عبد الوهاب ثاني أفلامه بعد فيلم “الوردة البيضاء”، وكان بعنوان “دموع الحب”، مع المطربة نجاة علي (إخراج محمد عبد الكريم) لتقدم المطربة نادرة فيلم “أنشودة الراديو” في العام التالي (إخراج توليو كاريني)، ونافستها أم كلثوم بفيلم “وداد” للمخرج فرتز كرامب، وبديعة مصابني في “ملكة المسارح” لماريو فولبي، والثنائي الغنائي عقيلة راتب وحامد مرسي في فيلم “اليد السوداء”.
يحيا الحب
توالت الأفلام الغنائية من بطولة مطربين ومطربات من أمثال رجاء عبدو وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطّلب، إلى أن تم اكتشاف ليلى مراد، عام 1938، عندما أسند إليها محمد كريم بطولة فيلم “يحيا الحب” أمام محمد عبد الوهاب، فبدأ بها التاريخ الحقيقي للفيلم الغنائي. وفي الفترة نفسها، استمر عطاء المطربات الأُخريات الأكبر سناً ومكانة في عالم الطرب، مثل ملك التي قدمت فيلم “العودة من الريف” (إخراج محمد كامل مرسي) عام 1939، وغيرها، ولكن لم تصل إحداهنّ إلى ما حققته ليلى مراد بسلسلة أفلامها.
فوزي والأطرش وحافظ
مع نجاح أفلام محمد عبد الوهاب الغنائية في بداية الأربعينيات نجاحاً تجارياً ساحقاً تشجع المنتجون السينمائيون على إنتاج أفلام غنائية لكبار المطربين والمطربات، ليظهر على الساحة نجوم مميزون، أبرزهم فريد الأطرش الذي قدم عدداً من الأفلام الغنائية، منها “انتصار الشباب”، مع شقيقته أسمهان، وكذلك أفلام “ما اقدرش”، “حبيب العمر”، “عفريتة هانم”، “آخر كدبة”، “لحن الخلود”، وفيلم “أنت حبيبي” الذي قدمه مع شادية، والذي يُعد من أهم وأنجح الأفلام الغنائية التي تم تقديمها، وضم ثنائياته مع شادية أغنية “يا سلام على حبي وحبك”، وأغنية “زينة”.. ولم يمر وقت طويل حتى بدأت أجيال جديدة بالظهور، خاصة في الخمسينيات، والتي يُعتبر نجمها الأول المطرب والملحن محمد فوزي الذي قدم ما يقارب 36 فيلماً، أهمها: “الزوجة السابعة”، “بنات حواء”، “دايما معاك”، و”ورد الغرام” الذى قدم فيه أشهر أغنياته “شحات الغرام” مع المطربة ليلى مراد، في حين قدم عبدالحليم حافظ – الذي كان ساحر الأغنية الرومانسية – في عصره 16 فيلماً غنائياً نذكر منها: “ليالي الحب”، “الوسادة الخالية”، “يوم من عمري”، “الخطايا”، بالإضافة إلى ثنائياته مع شادية في أفلام “لحن الوفاء”، “دليلة”، “معبودة الجماهير”.
غرام في الكرنك
في العام1967، قدمت السينما المصرية فيلم “غرام في الكرنك”، ويُعد من أهم وأنجح الأفلام الاستعراضية التي قُدمت، وكان أبطاله نجوم “فرقة رضا للفنون الشعبية” الذين قدموا قبله فيلم “إجازة نص السنة”، عام 1962. ويجمع النقاد على أن السينما المصرية لم تنجح في تقديم فيلم غنائي استعراضي يضاهي”غرام في الكرنك” الذي قدم وقتها أشهر الأغاني الاستعراضية، ومنها: “الأقصر بلدنا”، “حلاوة شمسنا”، “حتشبسوت”، وغيرها، والتي قدمها المطرب محمد العزبي مع نجوم الفرقة.. وفي العام 1967، تم إنتاج فيلم “مولد يا دنيا”، ويُعد من أشهر الأفلام الغنائية، وهو من بطولة عفاف راضي ومحمود ياسين وعبدالمنعم مدبولي وتوفيق الدقن، ومن تأليف يوسف السباعي، وإخراج حسين كمال، وتم فيه تقديم عدد من الأغاني الاستعراضية من ألحان بليغ حمدي، أبرزها: “تبسم للنبي”، “يمكن على بالو حبيبي”. وتدريجياً بدأت هذه النوعية من الأفلام تقل، واقتصرت على أفلام يُقدَّم فيها الغناء من قبل ممثلين مثل فيلم “سمع هس”، الذي قدمه الفنان ممدوح عبدالعليم والفنانة ليلى علوي، عام 1991، وهو يحكي عن زوجين يعشقان الغناء ويقومان بتقديم أغانيهما في الشوارع والموالد، وهو من تأليف ماهر عواد وإخراج شريف عرفة، وفيلم “رشة جريئة”، الذي تم إنتاجه عام 2001، وهو من بطولة أشرف عبدالباقي وياسمين عبدالعزيز، ومن إخراج سعيد حامد، وفي الفيلم قُدم عدد من الأغاني مثل: “عيل صغير”، “الهروب”، “رشة جريئة”.
قدم بعض مطربي الألفية، مثل عمرو دياب، محمد فؤاد، مصطفى قمر، عدداً لا بأس به من الأفلام الغنائية، إلا أنها لم تحمل قيمة أفلام المرحلة السابقة.
الولادة الحقيقية
أما لماذا اعتُبر الفيلم الغنائي الولادة الحقيقية لفن الغناء السينمائي العربي، وليس الفيلم الأول، يجيب الناقد حمدي أبو بري: لأن “أنشودة الفؤاد” كان مجرد تصوير بالكاميرا السينمائية لأغنيات طرب تقليدية مكتوبة وملحنة لأغراض الطرب المسرحي العربي التقليدي، وليس لأغراض المشاهد السينمائية، أما فيلم “الوردة البيضاء” – ثاني هذين الفيلمين – فقد شهد ولادة أول أغنيات عربية مكتوبة وملحنة بأسلوب جديد يناسب المشاهد السينمائية، فاستحق بذلك أن يكون تدشيناً لولادة فن الأغنية السينمائية العربية. وتنسب الموسوعة الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، والتي أعدها محمود قاسم للمطربين، الفضل في تقريب الأفلام إلى الجمهور ودفعه للاعتياد على مشاهدة السينما منذ ظهرت الأغنيات المصورة للمرة الأولى، عام 1933، في فيلم واحد هو “الوردة البيضاء” (بطولة محمد عبد الوهاب وسميرة خلوصي، وإخراج محمد كريم)، وقد صدر مجلدان عن هذه الموسوعة التي تسجل أغنيات الأفلام المصرية منذ العام 1933، ويقعان في 1780 صفحة كبيرة القطع. ويضم المجلدان أغنيات الأفلام حتى العام 1949، وسوف تصدر المجلدات التالية تباعاً. وقال الشاعر المصري طارق هاشم، في مقدمة المجلد الأول، “إن الجهد الموسوعي الذي بذله قاسم يسد فراغاً كبيراً في المكتبة السينمائية، إذ يؤرخ للفيلم الغنائي مسجلاً نصوص الأغاني ومؤلفيها ومطربيها وملحنيها، ومن الموسوعة نتعرف على دواوين كاملة لشعراء، أمثال فتحي قورة، ومرسي جميل عزيز، وحسين السيد، وبيرم التونسي، وإسماعيل الحبروك، وشعراء آخرين لم تنشر قصائدهم وأزجالهم في كتب مطبوعة. كما تسجل الموسوعة نصوص أغنيات مطربين غير مشهورين، منهم نادرة التي قامت عام 1936 ببطولة فيلم “أنشودة الراديو”، وقدمت فيه أربع أغنيات لحنها كل من رياض السنباطي ومحمد القصبجي، كما تسجل أيضاً نصوص أغنيات غير معروفة لفنانين شبه مجهولين حالياً، منهم فوزي منيب الذي قام، عام 1936، ببطولة فيلم “الأبيض والأسود”، وغنى فيه أربع أغنيات لحنها محمود الشريف، إلى جانب ثلاث أغنيات، غنتها الراقصة بديعة مصابني، عام 1937، في فيلم “الحل الأخير”، ولحنها فريد غصن، وكتبها أبو السعود الأبياري وبديع خيري.