في الذكرى السادسة لرحيل الوهيبي: الراوي بالتهشير العميق
يعتبر الفنان الوهيبي أحد رواد فن الحفر العربي المعاصر لما تتصف به تجربته من ابتكار وتجديد على صعيد تقنية الحفر والغرافيك، وهو الذي أبدع في صياغة أسلوبه الخاص الذي ميّزه عن باقي أبناء جيله من التشكيليين، خاصة أولئك المشتغلين في فن الحفر، فقد اعتمد في عمله الصبر الطويل كنقاش للوحة المحفورة بنسختها الوحيدة التي لا يمكن أن تكرر أو تعاد لعدم وجود النسخة الكليشة أو “الأم” على غرار أعمال الحفر التقليدية التي تعتمد التحضير المسبق للوحة عبر حفر الكليشة على المادة الحاملة للحبر مثل الزنك والمعدن أو الخشب والحجر واللينيليوم، وغيرها من المواد القابلة لهذا، فلوحة الوهيبي بنسختها الوحيدة المنفذة على الكرتون المعالج أو القماش، مع استخدام بعض الألوان والأصبغة المتقشفة بدرجات، لا تخرج عن عائلة متوافقة مع هذا الفن الصعب الذي يعتمد التهشير أساساً في خلق الطيف الواسع من التدرجات، وصولاً لخلق المشهد التصويري، محققاً منه للتأثير البصري الذي تتفتح في فضائه حالات التعبير الجديدة عبر الفكرة والمواضيع الأخاذة، خاصة أن أغلب مرويات الوهيبي البصرية لم تكن بتلك المباشرة التجسيدية، بل يذهب برائيه إلى حكايا من الذاكرة العميقة لهذا الرجل المسكون بالسحر والأمكنة التي عاشها، والتي يتخيل أن ينتهي فيها وبكامل حكمته المغلفة بروح عالية من سلامها الداخلي، فلم يكن إلا الفنان الذي أجمع كل من عرفه على سلوكيته الفريدة في لطفها وإنسانيتها ورحابة معرفته وعمقها.
مرت هذه التجربة بمراحل ميزتها البحث والمثابرة واستكشاف أساليب ومواضيع جديدة دائماً، فلم يكرر نفسه أبداً، خاصة في آخر حياته حينما انتقل إلى تجربته الفريدة التي سميت “اللامرئي”، هذه اللامرئيات لم تكن إلا تلك الهواجس والمخاوف التي بدأ الوهيبي يعيش بعضاً منها، ويصدرها رسماً ولوحة تستبصر المستقبل المرعب الذي تحسس بعض إشاراته التي تمظهرت بذلك السواد العميق في اللوحة، محيطاً بتلك النماذج الآدمية التي ترتدي معاطف طويلة وسوداء دون أية ملامح تشعرك بالرضى تجاه هذه الكائنات الغريبة عن الأرض، وكأنهم مجموعة من أولئك الذين يديرون لعبة الشطرنج على رقعة من خوف وموت؟!.. في “اللامرئي” هيكل عظمي يرتدي عباءة من الفولاذ، فيما تفتح بومة جناحيها أسفل العمل في تعبير احتجاجي على بلاغة ما قد يحصل لهذه البشرية الحزينة جراء ما يفكر به أولئك اللاعبون بمصير الأرض.
رسم الوهيبي مدناً من تاريخ قديم محفورة في الصخر، يجتمع أهلها حول مزارات مقدسة، يقدمون قرابين، ويشعلون البخور، ويمشطون شعر بناتهم الطويل حول الينابيع، كأن هذه البلاد هي فلسطين التي ولد الوهيبي حول بحيرتها ذات ليلة من شتاء 1947، وليذهب بعد عام مشرداً وأهله إلى بلاد عانوا فيها صلابة الأرض وعنادها أمام أوتاد خيامهم التي وزعتها الأونروا، لتبدأ رحلة عذاب الاقتلاع والفقدان، حيث لم يعد لهؤلاء الناس من خيار سوى سلاح الذاكرة لحماية حلم ينبت من جديد ويعلّقونه مثل حبال البامياء المجففة في البيوت، هذه الذاكرة الموغلة في البلاد حفرت عميقاً في نفس الوهيبي الذي لم يجد خلاصاً إلا بالرسم راوياً لحكاية شعب كنعان القديم، وحاملاً عذابات طريق الآلام، فكان فن الحفر والتهشير، حيث قال لي يوماً: كل شخصية هي مجموعة كبيرة من التهشيرات والتجارب الإنسانية، فكلما كانت هذه التهشيرات حادة وعميقة، كانت هذه الشخصية أخاذة ومبدعة ومشاكسة بحب للحياة، ربما هنا المكمن الحقيقي لفن الغرافيك والتعبير حينما نسقطه على أية تجربة فنية.
رحل الوهيبي في صيف 2015 في برلين تاركاً إرثاً كبيراً من محبة الأصدقاء، ومبتسماً لنا بحزن شديد.
أكسم طلاع