توصية الجنرال
ناظم مهنا
مرة، كتب الروائي الراحل غالب هلسا عن وثيقة أرسلها الجنرال البريطاني الشهير إدمون اللنبي، المندوب السامي البريطاني على مصر وفلسطين، عام 1917، من مصر إلى وزارة الخارجية والمستعمرات في بلاده، يوصي فيها حكومة بلاده بالعمل على نشر شيء من المدنية والتحضّر في مستعمرات الشرق الأوسط التابعة لبريطانيا، كالتعليم، وبناء المدارس، والمطابع والصحف.. “لإنشاء أجيال تُقدّس كلَّ ما يُكتب لها على أنها معلومات غير قابلة للشك..”، وهذه رؤية إستراتيجية للسيطرة، عند هذا الجنرال الاستعماري العريق الذي يُنسب إليه القول الشهير، عند دخوله مدينة القدس: “ها قد انتهت الحروب الصليبية!”.
وقد تكون الحكومة البريطانية أخذت بوصية الجنرال اللنبي، أو وصايا جنرالات آخرين. يكفي أن نذكر معهد شملان في لبنان، الذي أقامته بريطانيا بتوصية من ريتشارد كيسي المفوض العالي البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، عام 1960.. هذا المعهد ظاهره معهد للدراسات العربية، وباطنه لتخريج النخب التي ستقود المجتمعات العربية بعد الكولونيالية، وقد أطلق عليه الوطنيون العرب اسم “وكر الجواسيس”. ولو أن جهود الباحثين تركزت حول هذا النوع من النشاط الغربي في فترة الاستعمار لكشفت عن كثير من هذه المدارس والمعاهد أو ما يشابهها!. العالم منذ الخمسينات يعيش في العصر الامبريالي الأمريكي، ويطيب لبعض الأكاديميين أن يسميه عصر “ما بعد الكولونيالية” أي ما بعد الاستعمار الأوروبي.
في الزمن الأمريكي بلغت الهيمنة ذروتها، موظفة الثورة التقنية الانفجارية مع الميديا! أبهرت هذه الثورة النخب في أطراف العالم ومركزه وأصبح الجميع يتحدث بشاعرية فياضة عن العالم الذي صار قرية واحدة. وتوهم كثيرون ممن يثقون بالعلم أن الثورة التقنية الجديدة مع الاكتشافات العلمية المذهلة ستغيّر وعي البشرية بالكامل، وخيّل لآخرين أن العالم قد تحرّر من المركزية بعد أن ربطته شبكة الاتصالات من أقصاه إلى أدناه بـ “أوتوسترادات” متوازية ومتقاطعة! وارتفعت راية الشركات المتعدّدة الجنسيات، وحرية التجارة العالمية، والفضاء المفتوح، وأمطرت علينا السماء من كلِّ حدب وصوب شاشات فضية وذهبية وألماسية يطلّ منها فرسان العولمة من ليبراليين جدد ورجال القرون الوسطى وعصور الظلام، جنباً إلى جنب، والساق على الساق.. وهلَّت نعم الحياة علينا من هذا الألعبان الذي حولنا إلى أطفال مندهشين! وحُقَّ لنا أن نفتن، فنحن أمام ثورة علمية من نوع جديد يقودها المستر غوغل، فيسبوك، وتويتر، وإلى آخر التسميات، واعتقدنا ببراءة أن المعلومات لم تعد حكراً على المثقفين المحترفين أو الأنتلجنسيا المتعالية صاحبة الامتيازات في كل عهد! وبات بمقدور أضعف طفل في العالم أن يعوم في بحر المعلومات بيسر! وعلى ضوء ذلك، تحمّس المفسرون معلنين: “موت المثقف التقليدي”! لكن الحقيقة غير ذلك، فالهيمنة غدت أخطبوطية، وأحكمت سيطرتها على العقول التي أغرقت بمعلومات سطحية مختزلة ومبتسرة ومضللة أحياناً، وتمَّ توظيف كل شيء في آلية التحكم المتعاظمة. لقد أخذتنا الغبطة بثورة المعلومات ولم نفكر بنوعية هذه المعلومات ولا بمصدرها، وهل هي مفيدة حقَّاً إلى هذا الحدّ! وفي غمرة الحماس نسينا أن لهذه المعلومات التي تُضخ مصدراً واحداً هو الولايات المتحدة، وهل هي جديرة في إدارة المعلومات الثقافية للعالم، وماهي مصلحتها في ذلك؟! وكيف يتمُّ توظيف المعلومات واستخدامها، وهل تراعي خصوصية الثقافات، أم أنها تعمل على اختراقها وتفتيتها وفق المصالح؟!.
مما لاشك فيه أننا لا نستطيع رفض المعطيات الجديدة، ولكن بالتأكيد نستطيع مقاومة البعد السلبي فيها لتقليل انعكاساتها الضارة، ولكي لا نقع من جديد ضحايا توصية الجنرال اللنبي.