نوح لم يتقاعد
غالية خوجة
كيف شرّع الإنسان للإنسان سنّ التقاعد؟ ولماذا؟ هل رأفة بالإنسان بعد عمر أمضاه بالعمل؟ أم ترفيهاً له ليستمتع بالقسم الثاني من حياته بعد سنّ التقاعد؟ ماذا لو كانت حياتنا بلا سنّ تقاعد؟ أغلبنا يعارض سنّ التقاعد لأن العمر الفيزيقي مجرد رقم، بينما عمر العطاء الفكري والعقلي والجسدي خارج هذا الرقم، مادام الإنسان قادراً على العطاء كما يجب، وما دام قادراً، بكفاءته المناسبة للعمل، على منافسة الأجيال الأخرى في الإنتاج ونوعيته، بل ربما يتفوق على من هم أصغر سناً بكفاءته وخبرته والتزامه وطاقته الإنتاجية مهما اختلفت مجالاتها العملية في العمل. هنا، لا بد من إعادة الاعتبار لمن بلغ سنّ التقاعد، ليكون التقاعد غير مفروض، بل اختيارياً لمن يرغب في ذلك، إلاّ إذا كان لم يعد منتجاً للصالح العام كما يجب، وهذا ما يجب أن تنتبه إليه القوانين، وترفع من إيجابية تعاملها ومرونتها مع الإنسان، مراعية الكثير من الأحوال الإنسانية، ومنها، أن تجعل من بلغ سنّ التقاعد من أصحاب الكفاءة والطاقة الإيجابية المنتجة والخبرة المميزة مستشاراً هاماً في مكان عمله، أو في مجاله، مع رفع درجته الوظيفية وراتبه المادي.
ماذا لو سألنا عن عمر نوح الذي قاد السفينة بينما ابنه الذي يصغره كان عاصياً وغير مؤهل لقيادة السفينة؟ وماذا لو أن المشرّع الوضعي – العربي عموماً، والسوري خصوصاً – للسن القانونية للتقاعد لم يستند إلى قانون أجنبي مستورد؟ لأن القوانين والمواد القانونية المستوردة ليست ابنة شرعية لبيئتنا وطبيعتنا المحلية لعدة أسباب: أولها عدم توافقها مع ظروفنا المجتمعية والمكانية خصوصاً مع احترام العربي الأصيل للخبرات ومن هو أكبر سناً، فلكل بيئة وبنية اجتماعية ودولة ما يناسبها، وهنا، نؤكد على مقولة “باسكال”: “ما قبل جبال البيرينيه ليس ما بعدها”. ولأن ما يشرع هناك، لن ينطبق على ما يشرع هنا، أيضاً، لأسباب كثيرة، حتى لو أصبح سن التقاعد عرفاً دولياً، أو قانوناً دولياً، لأن لكل مجتمع ودولة خصوصية محلية وأولويات هي أدرى بها، ولأن الغرب عندما شرّع سنّ التقاعد شرّعه إنسانياً، ليكون الإنسان مؤنثاً أم مذكراً إنساناً محترماً تضمن له دولته ومجتمعه وعائلته حياة كريمة تبدأ من التأمين الصحي، ولا تنتهي بإسعاده وتعويضه عن تعبه في فترة العمل، ليكون مهتماً بذاته، ومشاريعه، وعائلته، فيمنحه التقاعد فرصة حياتية جديدة يخطط لها قبل التقاعد. بينما في مجتمعاتنا، يصبح المتقاعد مسكيناً عاجزاً مشرداً كئيباً، بلا أهمية وظيفية وعائلية ومجتمعية، ويزداد بؤساً وفقراً وإهمالاً، فلا تأمين صحي، ولا راتب ولا تعويض مناسب، ولا رأسمال لديه ليبدأ مشروعاً منتجاً خاصاً به، ويبحث عن عمل دون جدوى، أو يجد عملاً براتب غير مناسب، أو يجد نفسه عالة على عائلته التي تصاب بالعدوى من حالته العصبية والنفسية، وتعاصر أطوار ضجره وكآبته وتقلباته الأخرى، مما ينعكس على المجتمع، وعطائه وتحولاته، فيبدو أكثر سلبية وكسلاً، ويعاني اضطرابات متنوعة، منها اضطرابات المزاج، والوعي، والإنتاج.
ماذا لو خططنا بشكل جماعي للمتقاعدين ليكون لهم مجال آخر يستمرون من خلاله في العمل والعطاء والتوازن النفسي الذي ينعكس على التوازن المجتمعي؟ وماذا لو ألغينا سن التقاعد المفروض حكماً وقانوناً، وجعلنا التقاعد اختيارياً، واخترنا لهم مجالات مناسبة لخبرتهم وسنوات عمرهم التي أمضوها في العمل؟ ماذا لو خططنا لهم ليكونوا أناساً مرفهين بعد التقاعد بدءاً من التأمين الصحي، وليس انتهاء بانتساب مجاني للأندية الرياضية، وبتنقّل مجاني داخل المحافظات وبينها ليستمتعوا بما بعد التقاعد؟