دراساتصحيفة البعث

إحراق الأقصى.. اعتداء ممنهج على الأماكن المقدسة

د. معن منيف سليمان

تندرج جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك في إطار سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية الممنهجة على الأماكن المقدسة. فقد دأبت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948، بشكل مستمر ومتواصل على للتعرّض لحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية والاعتداء المتكرر عليها بهدف تنفيذ مخططاتها الرامية إلى تغيير طابع القدس وطمس معالمها العربية والإسلامية والمسيحية وتهويدها.

ففي 21 آب 1969، أقدم الإرهابي الإسرائيلي من أصل أسترالي “دينيس مايكل روهان” وبدعم من العصابات الإسرائيلية المغتصبة للقدس على إحراق المسجد الأقصى المبارك، وذلك بعد عامين من الاحتلال الصهيوني للقدس. أتت النيران على أثاث المسجد المبارك وجدرانه ومنبر صلاح الدين الأيوبي، ذلك المنبر التاريخي الذي أعده القائد صلاح الدين لإلقاء خطبة من فوقه لدى انتصاره وتحرير لبيت المقدس، كما أتت النيران الملتهبة في ذلك الوقت على مسجد عمر بن الخطاب ومحراب زكريا ومقام الأربعين وثلاثة أروقة ممتدة من الجنوب شمالاً داخل المسجد الأقصى.

وبلغت المساحة المحترقة من المسجد الأقصى أكثر من ثلث مساحته الإجمالية، حيث احترق ما يزيد عن 1500 م2 من المساحة الأصلية البالغة 4400 م2، وأحدثت النيران ضرراً كبيراً في بناء المسجد الأقصى المبارك وأعمدته وأقواسه وزخرفته القديمة، وسقط سقف المسجد على الأرض نتيجة الاحتراق، وسقط عمودان رئيسان مع القوس الحامل للقبة، كما تضررت أجزاء من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية، وتحطم 48 شباكاً من شبابيك المسجد المصنوعة من الجبص والزجاج الملون، واحترق السجاد وكثير من الزخارف والآيات القرآنية.

وكانت الكارثة الحقيقية والصدمة التي أعقبت هذا الاعتداء الآثم أن قامت محاكم الكيان الصهيوني بتبرئة ساحة المجرم الأسترالي بحجة أنه “مجنون”! ثم أطلقت سراحه دون أن ينال أية عقوبة أو حتى إدانة! وصرّح المجرم “دينيس مايكل” لدى اعتقاله أن ما قام به هو واجب ديني، وأنه قد نفّذ ما فعله كمبعوث من الله!

جريمة إحراق الأقصى هذا العام تتزامن مع عدوان شرس على الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل، من خلال تنفيذ حفريات في محيطه لإقامة طريق وجسر استيطاني يسهل اقتحامات المستوطنين، كما تتزامن مع حفر الاحتلال شبكة الأنفاق الضخمة تحت المسجد الأقصى وفي محيطه تهدد بانهيار أساساته. فجريمة الإحراق لم تكن حدثاً عابراً، بل كانت خطوة على طريق طويلة سار فيها الصهاينة منذ قيام كيانهم الغاصب عام 1948، تهدف إلى إعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم مكان الأقصى بعد إزالته، على الرغم من كل المواثيق الدولية التي تمنع المساس بالمقدسات والآثار.

ففي تموز عام 1948، أغار الصهاينة على المسجد الأقصى حيث وجهت المدفعية قذائفها صوبه، فأصابت إحدى هذه القذائف مسجد الصخرة وقُتل بعض المصلين، كما نتج عن تتابع القصف حدوث خرق كبير في سقف الرواق الأوسط لقبة الصخرة، وتحطم شباك القبة المصنوع من الفسيفساء والزجاج المذهب الذي كان من التحف النادرة.

وفي عدوان حزيران عام 1967، اعتدى الصهاينة على الأقصى، حيث استباحوا قدسيته وقتلوا العديد من الأبرياء، وأقاموا صلواتهم داخل الحرم، ثم تتابعت اعتداءاتهم بحجة الكشف عن التاريخ اليهودي وهيكل سليمان المزعوم. فأخذت السلطات الإسرائيلية تقوم بالحفر في أماكن متعددة في الأحياء العربية المصادرة داخل السور والمناطق الملاصقة للحائطين الجنوبي والغربي للحرم الشريف. وتغلغلت إلى مسافة 230 م أسفل الحرم وعقارات الوقف الإسلامي التابعة له وبعمق عشرة أمتار وعرض ستة أمتار. وترتب على هذه الحفريات تصدع الزاوية الغربية الفخرية (مقر مفتي الشافعية)، فضلاً عن تهديد سور الحرم. وأمام الاحتجاجات المتتالية للمسلمين عيّنت اليونسكو قيّما على هذه الآثار.

كما تسعى “إسرائيل” لوضع يدها على مقبرتي باب الرحمة واليوسفية الملاصقتين للحرم الشريف من الجهة الشرقية وضمهما إلى متنزَّه “إسرائيل” الوطني. وأضاف الصهاينة جريمة جديدة حين واصلوا حفرياتهم، وأعلنوا عام 1981، أنهم توصلوا إلى نفق يمتد تحت المسجد الأقصى، يصل ما بين أسفل حائط البراق وقبة الصخرة المشرفة، وزعم بعض الحاخامات أن هذا النفق هو أقدس الأماكن اليهودية، وأنه أهم من حائط البراق، إذ هو – على حد زعمهم – بوابة كيفونوس الواردة في كتاب التلمود، وهي أهم مكان للصلاة.

لا شك أن الصمت الحكومي العربي والإسلامي تجاه ما يجري على أرض فلسطين، والتواطؤ العالمي، فضلاً عن الدعم الأمريكي والأوروبي اللا محدود للكيان الإرهابي في فلسطين شجع الإسرائيليين على الاستمرار في الاعتداء على الأماكن المقدسة حتى اليوم.

فيما لا تزال مقولة رئيسة وزراء الاحتلال غولدا مائير: “عندما حرق الأقصى لم أنم تلك الليلة، واعتقدت أن “إسرائيل” ستسحق، لكن عندما حل الصباح أدركت أن العرب في سبات عميق”.. لا تزال هذه العبارة الساخرة والسوداوية حاضرة بيننا، إذ لا يزال العرب في سبات عميق، وتحول بعضهم إلى سدنة للاحتلال وحلفاء له وجزء من رؤيته السياسية للمنطقة.