هل تنبئ الإنفجارات الغبارية في أقبية المطاحن بكارثة تؤخرها الصدف؟!
ثمة معلومات تشير إلى وجود إهمال تام في قطاع المطاحن عموماً، لجهة أخذ الحيطة والحذر من حدوث الانفجارات الغبارية التي تهدد سلامة وأمان أية مطحنة للحبوب والأقماح أو صومعة لتخزين الحبوب، لاسيما إذا ما علمناً أن عدد من تلك الانفجارات سبق وأودت بحياة عدد من العمال وأوقعت الجرحى، وفوق كل ذلك أخرجت المطاحن والصوامع عن العمل لسنوات مع خسائر مادية فادحة.. ما يعني بشكل أو بآخر أن هذا الأمر يشكل خطراً لهذا القطاع إذا لم تتم معالجته بشكل فوري.
يقودنا هذا للتساؤل الجوهري هل نتعلم مما حدث؟ أم دفعنا واقع الأزمة والضغوطات الاقتصادية لإهمال هذه المرافق الهامة والحيوية، وتجاهل الأمان الصناعي للعامل والمنشأة؟!
تتم الصيانة
في تأكيد منه على أهمية المطاحن والوقوف على واقعها وأمان العاملين فيها، بادر وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك الدكتور عمرو سالم إلى زيارة مطحنة تشرين وعدد من المطاحن الأخرى، ورغبة منا في معرفة تقييمه للواقع في هذه المطحنة، واستبيان ما إذا كانت فعلاً تشكل بيئة حاضنة للانفجار الغباري، جاء الرد بأنه لوحظ وجود خطوط إنتاج لم تجر لها الصيانة منذ سنوات، وأنه يتم العمل الآن على صيانتها بحيث لا تؤثر على الطاقة الإنتاجية للمطحنة، ولم نستشف من الإجابة أية تفاصيل تؤكد أو تنفي خطورة واقع المطحنة.
أعطال ومشكلات
ومع أن الانفجار الغباري يحدث في أية مطحنة في حال تحقق شروطه الفنية الخاصة فقط، وتتم الوقاية منه باتخاذ كافة التدابير الوقائية، وتوعية العاملين والفنيين على امتداد القطر عبر دورات للتوعية حول أخطار الانفجار الغباري ومؤشراته، إلا أن مدير المؤسسة العامة السورية للمطاحن، المهندس يوسف حسين قاسم، نفى وجود بيئة حاضنة للانفجار الغباري في أي من المطاحن أو الصوامع التابعة للمؤسسة، ليبين أن جميع المطاحن تعاني من مشكلات فنية مغايرة تماماً لما يشاع الحديث عنه؛ ووفقاً له فإن جميع المطاحن قديمة بالكامل بعضها يعود للعام 1958، وأحدثها موديل عام 1994، باستثناء مطحنة المدينة الصناعية في أم الزيتون التي تم استيرادها عبر الخط الإئتماني الإيراني وتشغيلها مؤخراً، وجميعها تتجاوز العمر الافتراضي المقدر من الصانع وهو عشر سنوات، والبناء عشرين سنة فقط، ومع ذلك أكد قاسم أنه تتم متابعة وضع تلك المطاحن وصيانتها وتطويرها رغم أنها تعمل دون توقف نهائياً على مدار الساعة لكل أيام السنة، كما تعاني من مشكلات عدم انتظام التيار الكهربائي التي لم يتم التوصل لحلها حتى الآن، رغم التنسيق مع وزارة الكهرباء، وضعف قدرة المولدات الكهربائية وحاجتها للراحة كل خمس ساعات، بالإضافة لصعوبات الحصول على قطع الغيار للمطاحن، وإحجام العارضين عن تقديم عروض لعقود الصيانة والتجديد التي تم الإعلان عنها عدة مرات بسبب تقلبات سعر الصرف.
وأشار قاسم إلى إصابات العاملين الخطيرة المتكررة والتي لا يمكن تلافيها وناتجة في معظمها عن الضغط الشديد للعمل، وأن المؤسسة تقوم بدورها لجهة تغطية جميع نفقات مداواة العمال في حال تعرضهم لأية إصابات عمل عبر التأمين الشامل، وتعجيل دفع تلك النفقات من قبل المؤسسة في حال تأخر إجراءات التأمين، وعلاوة عن ذلك فقد عملت المؤسسة خلال العام الحالي على رفع الحوافز بالتعاون مع وزارة المالية، ومركز تطوير الإدارة والإنتاجية في وزارة الصناعة من مبلغ لا يتجاوز 2600 ليرة إلى 50% من الراتب المقطوع.
ووفقاً لقاسم تعاني المؤسسة منذ بداية الأزمة من مشكلة نقص اليد العاملة العمالية والفنية في المؤسسة، حيث انخفض عدد عمال من 15000 قبل الأحداث إلى 7400 عامل، وأغلبهم عمال غير مختصين، حيث يقوم بمعظم الأعمال الفنية والدقيقة عمال عاديين من الفئة الرابعة أو الخامسة.
صفحة كيدية
من جانبه اعتبر مدير فرع دمشق وريفها للسورية للحبوب محمد ديب وهاب أن تراكم الطحين في قبو مطحنة تشرين وغيرها من المطاحن التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة هو شيء طبيعي تم تهويله بفضل صفحات التواصل الاجتماعي، ويقف وراءها أحد العمال المعروفين في مطحنة تشرين، الذي يدير صفحة غير رسمية على الفيسبوك، وهذا التراكم للطحين ناجم عن آلية عمل تلك المطاحن وتصميمها، فاليوم تكثر رفات الكهرباء بشكل لا يمكن السيطرة عليه، مما يؤدي إلى توقف المطحنة، ويحدث بداخلها (تخنيقة) وعند ذلك يتم طرح الطحين إلى القبو لإعادة المطحنة إلى العمل، واعتبر وهاب أن تراكم القمح والطحين في القبو ليس سبباً على الإطلاق في حصول ظاهرة الانفجار الغباري كون القبو لا توجد ضمنه آلات أو كهرباء أو مصادر حرارة، وهي من الشروط الأساسية لحدوث الانفجار الغباري، وأشار وهاب إلى أنه جرى تشكيل لجنة من قبل الإدارة العامة للمؤسسة وفرع دمشق وريفها لمتابعة وضع مطحنة تشرين، وتم الإعلان عن مجموعة من العقود لصيانة المطحنة، وتبديل المناخل وتطويرها.
وبرر وهاب سبب حدوث إصابات قطع أصابع وأطراف متكررة للعمال بأن هناك ضغط عمل شديد، دون وجود أية عطل أسبوعية، مما يسبب تشتت تركيز العمال، وأن عدم وجود أية آليات أمان يعود لتصميم وآلية عمل تلك المطاحن الذي يتطلب التركيز الشديد بالتعامل مع أحجار الطحن الستناليس ومكنات الطحن الضخمة، وفي سياق متصل ذهب مدير مطحنة تشرين عبد الكريم طلاع إلى أن جميع الإجراءات والتدابير التي تمنع حدوث ظاهرة الانفجار الغباري تتم مراعاتها بدقة، ويرى طلاع أن وضع المطحنة طبيعي جداً وتحت السيطرة، وأن المطحنة مؤلفة من أربعة خطوط إنتاجية، وطاقة كل منها 115 طن، وتنتج مجتمعة أكثر من450 طن، وخلال الحرب قامت المجموعات المسلحة بالاعتداء على المطحنة عدة مرات، مما أدى لتردي وضعها الفني بشكل كبير.
كف عفريت
رغم كل ما سمعناه من تطمينات رسمية، وتأكيدات على مراعاة إجراءات الأمان والسلامة في المطاحن، والدعوة لعدم القلق حول ما يثار فقدت وردت شكوى حول سوء الوضع الفني لمطحنة تشرين وعدد كبير من المطاحن في دمشق وريفها، وأنها وفقاً لمقدمي الشكوى”على كف عفريت”وبيئة حاضنة للانفجار الغباري بما تعنيه الكلمة، فالقمح والطحين متراكم في جميع أرجاء مطحنة تشرين وخاصة القبو، وبكميات قد تصل إلى150 طن أي كامل استطاعة المطحنة الفعلية التي كان من المفترض أن تكون450 طن، ووفقاً للشكوى فإن استمرار هذا الإهمال قد يؤدي وفي أية لحظة إلى مجزرة وكارثة لا تحمد عقباها، خاصة وأن هناك منشآت صناعية قريبة من المطحنة كأسمنت عدرا، والشركة العامة للإنشاءات المعدنية والصناعات الميكانيكية، وطالب مقدمو الشكوى بتشكيل لجنة على قدر المسؤولية لدراسة واقع هذه المطحنة وغيرها من المطاحن بجدية وحزم حرصاً على سلامة العمال واستمرارية هذه المنشآت الحيوية التي لا تقبل التوقف.
خطيرة عالمياً
نظراً لخطورة ظاهرة الانفجار الغباري وتكرارها سواء في سورية أو في أي بلد آخر، يجري الباحث والمخترع الدكتور المهندس أحمد صالح العوض بالتعاون مع وزارة التجارة الداخلية والسورية للحبوب العديد من المحاضرات والدورات لتوعية كافة العاملين في المطاحن والصوامع في القطر، لاتخاذ كافة الإجراءات والتدابير الفنية والعلمية اللازمة للوقاية من خطر الانفجارات الغبارية، وأشار العوض إلى أنه من أبرز أسبابها تفاعل أغبرة المادة المتناثرة في الهواء والقابلة للاشتعال كغبار القمح أو غبار الدقيق مع أكسجين الهواء، مع وجود مصدر اشتعال ضمن حيز مغلق، إضافة للمواد العضوية الاصطناعية المساعدة كالبلاستيك، والأصباغ، والمبيدات الحشريَّة، والمعادن كالألمنيوم، والزنك، والمغنزيوم، والمواد الصيدلانية مثل حمض الاسكوربيك، والكافايين، والأمينوفينازون، ونوه العوض إلى أن آلية حدوث الإنفجارات الغبارية تكون وفق سلسلة متعاقبة تتألف من انفجار أوّلي يتبعه سلسلة من الانفجارات الغبارية الثانوية، ويجب لفت انتباه الجميع للسيطرة والتحكم بالانفجار الأولي الذي قد يحدث لأي سبب كيلا ينتقل للآلات، والمواد الأخرى في المنشآت، فالهدف الأكثر أهمية هو تجنب حدوث الانفجارات الغبارية الثانوية، لأن موجة الانفجار الناتجة عن الانفجار الأولي تسحب معها رواسب الغبار المتراكم على الأرضيات وعلى التجهيزات الميكانيكية والكهربائية مسببة انفجاراً ثانوياً أشد وأكثر خطورة من الانفجار الأولي، ووفقاً للعوض تقسم طرائق الوقاية من الانفجارات الغبارية والحد منها إلى الوقاية من مصادر الاشتعال كمنع التدخين ضمن المنشأة، واستخدام السخانات الكهربائية، والمصابيح المكشوفة، وإيقاف أعمال جلخ ولحام المعادن في أوقات الطحن، وتالياً عبر النظافة الجيدة لرواسب الغبار، وفتحات تنفيس موجة ضغط الانفجار، والانتباه للسطوح الساخنة كمجاري التهوية للمحركات الكهربائية وتنظيفها باستمرار، والكشف الحسي على المحركات وعلب السرعة والمضاجع المتحركة، والحذر من ظاهرة التسخين الذاتي (جمرة- عسيس) الناجمة عن تخزين مواد كالنخالة والحبوب في المستودعات والصوامع لفترات طويلة مع ارتفاع نسبة الرطوبة، كما يجب الانتباه أيضاً إلى الشرار الناتج عن الصدم الميكانيكي بين الأجسام الصلبة كسقوط قطعة معدنية من ارتفاع على جسم صلب، أو نتيجة صدم الكيلة مع جسم الرافعة الكيلية، ويرى العوض أنه يجب لتحقيق الوقاية المناسبة من الانفجارات الغبارية وجود عملية تواصل فعالة وهادفة بين فئات الموظفين المعنيين على اختلاف مهامهم، وبدوافع حقيقية تتمثل في حماية حياتهم وحياة زملائه من خطر الانفجارات الغبارية، إضافة لسرعة اتخاذ القرارات اللازمة والمناسبة.
وطالب العوض بتدريس الانفجارات الغبارية في جامعاتنا على غرار الجامعات الأوربية عبر اختصاص مستقل يدعى هندسة تكنولوجيا الطحن، وإدراج مقرر لدراسة هذه الظاهرة في الكليات الهندسية نظراً للحاجة الماسة له في تطوير عمل المطاحن والمخابز وزيادة جودة منتجاتها من الطحين والخبز.
بشار محي الدين المحمد