ليست قدراً
أحمد حسن
ربما كان أهم انجاز لقوى المنطقة الحيّة خلال سنوات الجمر الماضية هو إحداث تبادل، ملموس، في مراكز “الفعل” مع العدو، فبدل أن تكون إرادة هذا الأخير أمراً محدّداً ومدروساً، ومقدّراً بعد صدورها، أصبحت أمراً يمكن مواجهته وتعطيله بأكلاف معقولة وصولاً إلى خلخلة ركائزه ودفع قيادة العدو إلى مكان، وموقع، رد الفعل، وتلك، في علم الصراع، خطوة متقدمة نحو النصر.
الصورة الأوضح لهذا الواقع الجديد صدّرتها دمشق خلال العشرية الماضية من القرن الحالي، فكان لصمودها الأسطوري أمام الهجمة الكبرى بقيادة واشنطن أثر كبير في دفع هذه الأخيرة للانتقال من مرحلة التخطيط، والعمل، للنصر الكامل، إلى مرحلة تخفيف الخسائر واستيعابها، وصولاً إلى مرحلة منع النصر السوري من الاكتمال عن طريق تأخير الاعتراف به عبر تشديد الحصار الاقتصادي والدبلوماسي على دمشق من جهة أولى، والعمل، من جهة ثانية، على إدامة استنزافها عبر تحريك بعض المجموعات المسلحة، وخاصة في شمال شرق سورية وجنوبها، بالتعاون مع أدوات محلية ودول إقليمية معروفة، رغم علمها أن ذلك لن يغير شيئاً في النتيجة النهائية لكنها “الطلقة” الأخيرة في جعبتها لحجز مكان في صورة سورية المستقبلية، وبالتالي في صورة المنطقة بالكامل، وذلك في جوهره تراجع في القوة، فبعد أن كانت مالكة لأمر المنطقة بالكامل أصبح كل حراكها يتمحور حول البقاء كشريك واحد ضمن شركاء عدّة.
الصورة الأخيرة لهذا الأمر أتت من لبنان وامتدت آثارها إلى دول الجوار، وتحديداً إلى سورية، فبعد نحو عامين على انطلاق عملية تهديم ركائز الدولة اللبنانية – بأيد داخلية معروفة للجميع – وتحميل حـ.زب الله ومحـ.ور المقـ.اومة في المنطقة بأكمله مسؤولية ذلك، وبالتالي إسقاطها على رأسه، ورأس المحور، للقول للبنانيين، ولغيرهم، انظروا ما جناه عليكم مشروع المقـ.اومة – وذلك قول رددته حرفياً “جوقة” سياسية ودينية وإعلامية ودبلوماسية كبرى – بعد ذلك كله، وحين انتقل حـ.زب اللـه، بلسان أمينه العام، من موقع رد الفعل ومحاولة استيعاب التداعيات إلى موقع الهجوم عبر الإعلان عن انطلاق سفينة نفط من إيران باتجاه لبنان – وتلك خطوة ذات أبعاد استراتيجية هائلة – انتقلت واشنطن من موقع الفاعل إلى موقع رد الفعل بإعلان سفيرة واشنطن في لبنان السماح للكهرباء والغاز المصريين بالعبور من خلال سورية نحو لبنان، وهي خطوة تراجعية هائلة في معناها ومغزاها، ولم يكن تبرير تزامنها مع القرار “الحزبي” بـ “الصدفة” – كما حاول البعض – ليقنع سوى صغار العقول، والمهزومين داخلياً، وبالطبع العملاء سواء المستترين منهم أم المعلنين.
فالمسألة في جوهرها، وكما تفهمها واشنطن وعملائها جيداً، ليست قصة سفينة محروقات أو حتى قافلة سفن كاملة، بل معادلة مركبة متعددة “لصياغة بيئة سياسية اقتصادية استراتيجية جديدة في المنطقة الممتدة من مضيق هرمز حتى سواحل لبنان وسورية”.
والحال فإن البعض يريد، سواء كان مخدوعاً بوهم القوة أو عن سابق إصرار وترصد، ترسيخ مقولة أن واشنطن لا تهزم، وبالتالي، هي، في حسبانه، لم تهزم في أفغانستان مثلاً، بل كان الانسحاب، المذلّ حتى لحلفائها، خطة جهنمية وضعتها مراكز أبحاث الدولة العميقة في واشنطن، تحضيراً للانتصار الكبير القادم.
بيد أن الحقيقة في مكان آخر، فأولاً يتجاهل هذا البعض أن الامبراطوريات لا تخسر سطوتها في معركة واحدة وبصورة نهائية، بل يتم ذلك بالتدريج وعن طريق دفعها – عبر قوى أخرى منافسة وحركات مقاومة متعددة – نحو طريق التراجع الدائم والمستمر، وثانياً نوافق هذا البعض على أن الانسحاب من أفغانستان، وضعت خطته مراكز أبحاث الدولة العميقة، وهو ليس قراراً فردياً لرئيس واحد، لكنها خطة للتقليل من الخسائر والهروب من حرب لا يمكن ربحها على أي حال.
بالمحصلة، لا أحد يماري في حقيقة أن واشنطن هي القوة الأولى والأكبر في عالمنا المعاصر، لكن ما يحدث اليوم هو أجزاء مرئية من قصة صعود الامبراطوريات وسقوطها – التخلي عن الحلفاء بالنسخة الأفغانية ليست صورة امبراطورية في أوج قوتها – وبالتالي واشنطن، كما روما قبلها، ليست قدراً لا راد له، إلا عند من سلّم سلفاً بالاستقالة من دوره في هذا العالم وبالتالي ليس له، مستقبلاً، سوى الانتقال من يد محتّل إلى يد آخر.