ريشة وقضية
سلوى عباس
تصادف هذه الأيام الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاد الفنان ناجي العلي وفلسطين التي شكلت همه الأول تعاني ما تعانيه من صلف العدو وطغيانه، وهاهي غزة المحاصرة لسنوات طويلة تجدد انتصارها كل لحظة عبر صمود أبنائها الذين أدركوا أن كل انتصار هو خطوة في طريق التحرير.. اليوم، تحضر الذاكرة بكل تفاصيلها لتستذكر فناناً اختار الوطن حلماً قضى من أجله، فقد حمل ناجي العلي قضيته في وجدانه هاجساً مراً يجرح الروح ويدمي القلب، كان يتحدث عنها بشوق ويسترجع ذكرياته فيها وكأنه سيعود غداً، لكن رصاص الخيانة عاجله ولم يمنحه فرصة الحياة ليعيش تلك اللحظة.
كانت أعماله عبارة عن لوحات ومشاهد شملت الجوانب القومية والإنسانية عبّر عنها بشاعرية تمتزج بالألم والأمل، فما من ومضة تضيء فكرة وتحمل هماً مشتركاً إلا وعمل على إيصال نورها إلى العالم القريب أو البعيد منه، فالفكرة كانت الهدف والغاية، والفن هو الوسيلة لإيصالها، وهذا كان الرابط لديه بين الرسم والكلمة، فصوّر فلسطين والبيوت والأسلاك المحيطة بها، وجسّد في لوحاته تجذر أبناء فلسطين في أرضهم وجباههم مرفوعة لتطاول الأفق.
لم يكن ناجي العلي يملك سلاحاً سوى ريشته وتلك الأفكار التي ينتقد فيها الواقع بكل معطياته، والتي ضمنها رسومه الكاريكاتورية، وقد عبر فيها بصدق عن موقف المواطن العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص تجاه الأحداث التي يعيشها الوطن العربي، وكانت رسومه هذه بما تحمله من أفكار صادقة تقض مضاجع المتاجرين بالقضية والمتآمرين على مواطنيهم لأنها تحث على إيقاظ الضمائر النائمة، والتذكير بفلسطين المغتصبة والشهداء الذين استشهدوا من أجلها، لكن هذا الأسلوب لم يرق لهم فقرروا أن يتخلصوا منه، وكانت لحظة الاغتيال التي أصابت الجسد بينما الروح انتقلت لتخلد في ذاكرة كل عربي، وبقيت أعماله ورسومه شاهدة على تاريخه النضالي والبطولي، ونبراساً ينير للجيل المقاوم طريق البطولة والفداء.. وهاهو حنظلة الشخصية التي ابتكرها الفنان ناجي العلي وكانت وصيته الأخيرة، قد أزهر ربيعاً من المناضلين لتحقيق الوصية والالتزام بها.. حنظلة الذي وصفه أنه (شاهد العصر الذي لايموت.. الشاهد الأمين الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً.. الشاهد الأسطورة والشخصية غير القابلة للموت، ولدت لتحيا، وتحدت لتستمر، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي، بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إني قد أستمر به بعد موتي..) وقد صدقت نبوءة العلي في استمرار شخصية حنظلة في الأجيال القادمة فمنذ أيام لفتتني صورة في صفحة أحد الأصدقاء لأطفال يقفون أمام رسم لحنظلة وقد وضعوا أيديهم خلف ظهورهم مقلدين له، كتأكيد على استمرار المقاومة الفلسطينية عبر الأجيال ودحض للمقولة الإسرائيلية “الكبار يموتون والصغار ينسون”.
“حنظلة” الذي خلق من رحم الألم وأدار ظهره للعالم، ويداه خلف ظهره يمثل الجيل القادم بكل ما ورثه من عناء وهزائم وتخلّف إنه ضمير أمتنا الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية، هو قمّة ما أبدعه ناجي العلي، وأصبح يوقّع به على رسوماته، يقول عنه: “هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحه من الانزلاق، وهو نقطة العرق التي تلسع جبينه إذا ما جبن وتراجع”. وعن تكتيف يديه يقول العلي: “كتفته بعد حرب أكتوبر 1973، لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة.. دلالة رفضه المشاركة في حلول التسوية في المنطقة”، وعندما سئل عن موعد رؤية وجه حنظلة، أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بإنسانيته وكرامته وحريته”.