مجلة البعث الأسبوعية

بايدن وأفغانستان وكورونا.. تطورات غيرت التوازنات العالمية المهمة الأمربكية الجديدة ليست “حرباً على الإرهاب” بل حرب ضد روسيا والصين

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

في نهاية المطاف، جاءت اللحظة التي أعادت إلى الذاكرة لقطات إخلاء السفارة الأمريكية في مدينة سايغون في جنوب فيتنام، عام 1975، بأسرع مما توقعه أي خبير استخبارات غربي. أربعة أيام مسعورة اختتمت بسرعة البرق حرب العصابات الأكثر إثارة للدهشة في الآونة الأخيرة، على الرغم من تصريحات وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين الذي قال للصحافة إن مغادرة كابول ليست مماثلة لمغادرة القوات لسايغون.

لم يصل سلاح الفرسان الأمريكي في وقت متأخر فحسب، بل كانوا عالقين في مأزق لأنهم لم يتمكنوا من قصف مواردهم داخل كابول. تفاقم سوء التوقيت عندما استولت طالبان أخيراً على قاعدة باغرام التابعة لحلف الناتو لما يقرب من 20 عاماً. ثم ناشدت الولايات المتحدة والحلف طالبان للسماح بإجلاء ما هو ممكن من كابول، عن طريق الجو بالسرعة القصوى.. اليوم، يجب تفسير “خسارة” أفغانستان على أنها إعادة تموضع، إنها جزء من التكوين الجيوسياسي الجديد، حيث لم تعد المهمة الرئيسية للبنتاغون هي “الحرب على الإرهاب”، بل المحاولة المتزامنة لعزل روسيا، والتضييق على الصين في إطار عرقلة توسع طريق الحرير الجديد.

ومع ذلك، فإن أي مكيدة أمريكية تحتاج إلى كبش فداء. لقد تعرض حلف الناتو للإذلال في مقبرة الإمبراطوريات من قبل مجموعة من رعاة الماعز، هذا عدا عن الخسائر المادية والبشرية التي خلفتها الحرب على مدى عشرين عاماً. والكارثة مرعبة ليس فقط بسبب 20 عاماً من الوجود الغربي، فهناك أكثر من ألف مليار دولار من الإنفاق، وحصيلة بشرية فادحة – خاصة بالنسبة للمدنيين الأفغان، وانفجاراً عالمياً في إنتاج واستهلاك المخدرات.

ونظراً للسرعة القصوى للهجوم الذي قادته طالبان، يتساءل العديد من الخبراء عما إذا كان الوضع لم يكن مصدر اتفاق مسبق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، بمشاركة باكستان. وإذا كان هذا الاحتمال يستحق الاهتمام، تظل الحقيقة أنه في ظل الوضع الأمني على الأرض، ما كان لطالبان القدرة على السيطرة على أكثر من نصف البلاد لولا الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة وحلفائها.

يتحدث المراقبون الآن عن التوقعات الإقليمية والأوروبية والآسيوية. فإذا كان البعض يميل إلى المضي قدماً في فرضية أن إجلاء القوات الأمريكية وحلفائها من أفغانستان يمثل، بحد ذاته، استراتيجية لخلق مشاكل أمنية للخصوم الجيوسياسيين الرئيسيين للمؤسسة الأمريكية – أي روسيا والصين وإيران، وكذلك حلفائهم – وهو احتمال قد يكون معقولاً تماماً في أذهان ممثلي واشنطن، لا ينبغي نسيان أن القوى الأوروبية الآسيوية الثلاث لم تقف مكتوفة الأيدي. كما مكّنت هذه الجهود من الحصول على الضمانات اللازمة لبكين وموسكو، بما في ذلك استمرار عمل ممثلياتهما الدبلوماسية في كابول. بالإضافة إلى ذلك، وفي حين أن من الواضح أنه لا يمكن اعتبار طالبان بأي شكل من الأشكال قوة تقدمية، ولا تزال تعتبر بالفعل حركة إرهابية في روسيا، تظل الحقيقة أنهم يظهرون قدرة على تحليل الوضع الدولي الحالي بطريقة واقعية إلى حد ما.

أما بالنسبة للأمن الإقليمي، ولا سيما دول آسيا الوسطى التي تشترك في علاقات تحالف مع موسكو، فهناك كل الأسباب للقول إن القدرة على الاستجابة لتدهور محتمل للوضع لا تزال على أعلى مستوى، وذلك في إطار الدعم الروسي والصيني، دون نسيان القدرات التعبوية للقوات المشتركة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في الدول المجاورة لأفغانستان، وكذلك في حالة ضرورة توجيه ضربات موجهة ضد العناصر المعادية في المناطق الحدودية مع الدول المعنية.

من ناحية أخرى، فإن حركة طالبان، التي أعلنت دائماً أنها معنية فقط بالاستيلاء على السلطة داخل حدودها، تتفهم تماماً المخاطر التي ينطوي عليها أي عداء في وجه الثلاثي الصيني الروسي الإيراني وحلفاء الدول المذكورة، ليس فقط على الصعيد الأمني، ولكن أيضاً على الصعيد الاقتصادي، في وقت تحتاج البلاد إلى الدعم والتمويل أكثر من أي وقت مضى، مع الأخذ بعين الاعتبار التمويل الذي يمكن أن تقدمه الصين، بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء المعروفة.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وللمحور الغربي الذي يحن إلى أحادي القطبية الماضية بشكل عام، فقد أصبح واضحاً مرة أخرى نوع الحلفاء الذين يمثلونه، ومدى سهولة التخلي عن أولئك الذين اعتقدوا أنهم على صواب في وقوفهم مع الخيار الفائز، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة.

***

 

على المقلب الآخر، لا بد من التطرق إلى تطور قضايا الدفاع ما بعد الوباء: يبدأ تحليل تطور قضايا الدفاع في مرحلة ما بعد الوباء أولاً، وقبل كل شيء، مما كانت عليه بداية عام 2020، بعد ثلاثين عاماً من الحدث الكبير الأخير الذي غير الوضع بشكل كبير على هذا الكوكب: انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة، عام 1990؛ ومن ثم، كيف أثر الوباء على العوامل الرئيسية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على قضايا الدفاع هذه على الكوكب.

لا شك أن المعسكر الغربي سيخرج الخاسر الأكبر من هذا الوباء، ومن المرجح أن يضطر جناحه العسكري – الناتو – لتخفيف نشاطه وعدوانه؛ وفي حال كان طموحا، فإن مفهومه الاستراتيجي الجديد لعام 2021، والذي سيحدد كلاً من الصين وروسيا تهديدات ذات أولوية، سيكون معقداً بشكل متزايد في التنفيذ.

فقد سادت حالة من التوتر على المستوى العالمي والأوروبي والفرنسي قبل انتشار الوباء، وهناك بالطبع التوترات التقليدية بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. وتصطدم الرغبة العنيدة للتحالف الغربي في مد الهيمنة إلى الشرق بمقاومة متزايدة الحسم والفعالية من روسيا والصين وحلفائهما، فضلاً عن جهازهما الدفاعي المتنامي بقوة. ويُنظر أحياناً إلى الضغوط الديموغرافية والهجرة القادمة من الجنوب على أنها تهديدات كثيرة من قبل دول معينة في الشمال، وهي غير مستعدة لمواجهتها.

لكن حدة التوترات ذات الطبيعة المختلفة على هذا الكوكب اشتدت. ويمكن الاستشهاد بالمواجهة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، والاشتباكات المفتوحة بشكل متزايد والأقل سلمية بين العولمة والسيادة، وبين العالم اليهودي المسيحي والعالم الإسلامي، وكذلك الحملات العنيفة للايديولجيات البيئية مع عدم نسيان التوترات العالمية المتزايدة والمتفجرة المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالقضية الفلسطينية التي لم تحل بعد، لأنها ابتليت بالعلاقات الدولية لما يقرب من ثلاثة أرباع القرون.

وعليه، من الواضح أن الخطوات الأحادية الجانب التي اتخذتها الولايات المتحدة في محاولة منها لثني جميع الدول، بما في ذلك الحلفاء، وجميع المنظمات الكبرى التي ترفض الخضوع لإملاءاتها، لا تعمل إلا على زيادة التوترات: تدخلات عسكرية، فرض عقوبات اقتصادية، استخدام سلاح الدولار، وخروج تشريعاتها خارج الحدود الإقليمية، الانسحاب من المعاهدات والمنظمات الدولية بجميع أنواعها: التجارية، المناخية، الدبلوماسية، الثقافية.

حتى داخل الناتو، تلوم الولايات المتحدة الأوروبيين على ضعف جهودهم في ميزانية الدفاع، والأوربيون يلومون الأمريكيين على نزعتهم الأحادية في صنع القرار، وفي تحديد أهداف الحلف، وتجاوزهم في تطبيق تشريعاتها خارج حدودها الإقليمية، واستخدامها الدولار كسلاح لأغراضها، ونهب أجهزتهم الصناعية وتقنياتهم.

حتى دول المكون الأوروبي لحلف الناتو هي نفسها منقسمة، ولا سيما حول ثلاث قضايا مهمة: الاستقلال الوطني الذي تخلت عنه معظم الدول الأعضاء، ولكن يطالب به الآخرون (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وتلك المتعلقة بطرق تسوية أزمة الهجرة، والمواقف التي يجب تبنيها تجاه روسيا والولايات المتحدة والصين، مع عدم إخفاء العلاقات المتضاربة بين بعض الدول الأعضاء في الناتو: تركيا مقابل فرنسا واليونان في البحر الأبيض المتوسط، على سبيل المثال.

وفي المملكة المتحدة، هناك معسكران يتصادمان أيضاً حول نفس الموضوع: مؤيدون ومعارضون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي فرنسا، يبدو أن حركة السترات الصفراء تطمح، إلى جانب آخرين، إلى السيادة من خلال معارضة “الأوربة” و”عولمة الحكم”. وهكذا تحدث صدمة الوباء في هذا السياق ارتفاعا عاما في التوترات الوطنية والدولية. وهذه عواقب وخيمة طويلة المدى ستغير الخطوط في قضايا الدفاع:

1- الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء ستؤثر بشكل أكبر على المعسكر الغربي وقدراته الدفاعية.

2- الصدمة الاجتماعية والمجتمعية اللاحقة للوباء ستؤثر على المعسكر الغربي أكثر وبالتالي على قدراته الدفاعية.

وباعتبار أن حالة المجتمع، ومستوى تماسكه، والتعليم، والصحة، والوحدة، وإحساسه الجماعي، وقيمه المشتركة، واستعداد السكان للموافقة على دفع الثمن، كلها عوامل أساسية لتقييم حقيقة قدراته الدفاعية. لقد كشفت الصدمة الوبائية عوامل ضعف تؤثر بشكل أساسي على المعسكر الغربي. وساءت الانقسامات الموجودة مسبقاً داخل كل دولة حيث كانت استراتيجيات الدفاع أو العلاج في مواجهة الوباء محل نزاع ساخن، لا سيما في الولايات المتحدة، خلال الحملة الانتخابية، ولكن أيضاً في أوروبا: المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وأدت حالة عدم الاستعداد، وانعدام الوسائل، والتعليم، وسوء الحوكمة، إلى زيادة الخسائر البشرية أينما لوحظت وأثارت انعدام الثقة. وأدت الحالة الصحية الهشة لسكان أوروبا وأمريكا الشمالية، المحرومين من الرعاية الصحية في سن مبكرة، إلى عدم قدرتهم الدفاع عن النفس في مواجهة المرض. وظهرت الجوانب المتمحورة حول الذات والفردية، وعدم الانضباط والافتقار إلى الحس المدني والروح الجماعية لسكان بعض البلدان الغربية الكبيرة، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا، وكل هذا لا يبشر بالخير بالنسبة للسلوك المتوقع للحكومات والسكان الغربيين في حالة حدوث حالة صراع خطيرة.

ولم يتم ملاحظة مثل هذه الانقسامات السكانية والاختلالات في الحكم في الصين أو روسيا، الدول الخاضعة لأنظمة قوية، حيث يتم غرس الشعور الجماعي منذ سن مبكرة.

3- النتيجة المحتملة لصدمة الوباء: ينبغي أن تنخفض عمليات الانتشار العسكري في الخارج والعمليات الخارجية للدول الغربية.

4- إن إدارة بعض الدول الغربية الكبيرة للوباء أثرت على صورتها وتثير الشكوك حول بصيرة وفعالية حكمها.

في مكافحة الوباء، أظهرت حكومات الدول الرئيسية في التحالف الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا) نقاط ضعف كبيرة، وقليلا من التبصر وضعف الكفاءة بالنظر للنتائج: الافتقار إلى البصيرة وقلة التحضير، والتردد والارتجال الدائم، وتغيير 180 درجة في المسار، والأكاذيب التي تهدف إلى تبرير قرارات أو خيارات مشكوك فيها، والنقص الواضح في التضامن بين الدول المتحالفة، وبطء عملية صنع القرار، وكل هذا يمكن ملاحظته أو تجربته بشكل مباشر من قبل جميع دول العالم أو الأصدقاء أو الخصوم المحتملين لحلف الناتو.

لقد تحطمت أسطورة وجود معسكر غربي قوي ومنظم ولا يقهر من خلال إدارة هذا الوباء وحدها، خاصة عند مقارنتها بإدارة أكثر نموذجية لوحظت في آسيا أو أوروبا الشرقية. لقد تطور انعدام الثقة بقادة الدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا) في جزء لا يستهان به من سكان هذه البلدان الثلاثة، وكذلك في بقية العالم. كل هذا ليس من المرجح أن يطمئن الدول الأعضاء في الناتو، وخاصة شعوبها، في حالة نشوب صراع بين الشرق والغرب.

5- التقدم التكنولوجي الغربي لم ولن يكون كما كان عليه من قبل.

لفترة طويلة، استندت الدول الغربية في قوتها إلى التقدم التكنولوجي الكبير، والإنفاق الكبير على “البحث والتطوير”، لا سيما في المجال العسكري. ولكن يبدو الآن أن هذه الريادة قد تقلصت إلى حد كبير مقارنة بكل من الصين وروسيا، وسيكون تمويل هذه البحوث أكثر صعوبة في الغرب غداً.

بالنسبة للصين، فإن التقدم التكنولوجي مذهل بالقدر نفسه: الهبوط على سطح القمر في جانبه المظلم، أول دولة كبرى تطلق تكنولوجيا الجيل الخامس، المركز الأول في عدد عمليات الإطلاق المدارية في 2018 و2019 (39 و32 إطلاقاً)، وجود الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات، بما في ذلك إدارة الوباء، والمرافق الطبية الحديثة للغاية لعلاج مرضى كورونا، وفقاً لشهادات فرق منظمة الصحة العالمية الموجودة في الموقع؛ وفيما يتعلق بالمعدات الدفاعية، يعمل الصينيون بتكتم وقد يفاجئون العالم.

والاستنتاج بسيط:

إذا أدى انهيار الاتحاد السوفياتي، في العام 1990، لأسباب اقتصادية، إلى انتقال البشرية إلى عالم أحادي القطب تحت هيمنة الولايات المتحدة، لمدة 30 عاماً، فإن “وباء كورونا 2020” سيسرع نهاية هذا الوضع بالنسبة للأسباب نفسها.

ولن يستعيد التحالف الغربي، الذي تضرر بشدة من منافسيه الصينيين والروس، مركزه المهيمن قبل الوباء، ولن يكون لديه الوسائل الاقتصادية، وبالتالي العسكرية، ولن يكون هناك “قرن أمريكي جديد”، وإنما سيكون القرن الجديد صينياً، أو على نطاق أوسع أوروبياً آسيوياً.

خطر نشوب صراع كبير يهدف إلى معارضة مجرى التاريخ منخفض.

الغربيون ليسوا انتحاريين. وهم متورطون في مشاكلهم الداخلية (الهجرة، والشيوعية، والنقاش البيئي، والعنصرية الحقيقية، أو المفترضة، والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية)، ومنقسمون حول الموقف الذي يجب تبنيه تجاه الصين وروسيا والولايات المتحدة، وهم يعرفون أن بلدانهم واسلحتهم الدفاعية ليست في وضع يسمح لهم بالقيام بمغامرة عسكرية من نوع الحرب العالمية الثالثة، وسيكون لديهم كل شيء يخسرونه من خلال الشروع في مثل هذه المغامرة.

من ناحية أخرى، لا يمكن استبعاد وقوع “جائحة” اقتصادية ومالية وسوق مالية كارثية تبدأ من الولايات المتحدة في المستقبل القريب، مع عواقب وخيمة على العالم بأسره.