الشعر والفلسفة
ناظم مهنا
في تراثنا الشعري نفورٌ من التفلسف، قليلون هم الشعراء العرب الذين تفلسفوا، يمكن أن يعدوا على أصابع اليد، ولعلَّ المعري وحده تفرَّد في هذا المقام، وهو رفض أن يقال عنه فيلسوفاً أو حكيماً، ولكن أطلقوا عليه شاعر الحكمة، والحكمة والفلسفة شيء واحد في التعريف الكلاسيكي للفلسفة، وسبق لأبي تمام وأبي نواس والمتنبي أن أدخلوا في شعرهم مفردات فلسفية. لكن لم يشأ أيّ منهم أن يكون فيلسوفاً، وقد سخر أبو نواس من أبي إسحاق الكندي، حين قال:
قل لمن يدّعي بالعلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
ولا أعتقد أن أياً من هؤلاء كان يطمح لأن يكون فيلسوفاً، وحسب الواحد أن يكون شاعراً. إن ثقافتنا تعطي الأولوية للشعر، وترتاب بالفلسفة! ومن أشهر الكتب التراثية كتابا أبي حامد الغزالي: “المنقذ من الضلال” و”تهافت الفلاسفة” وهما لتفنيد الفلسفة والفلاسفة.
إن الضلال يمكن أن يكون مشتركاً بين الشاعر والفيلسوف، وأسلافنا أطلقوا صفة “الضليل” على امرئ القيس أكبر شعراء ما قبل الإسلام!.
أفلاطون ازدرى الشعراء، وكان يرى أن الشعر يفسد أي فضيلة. أما أرسطو فقد حاول أن يعيد اعتبار الفلاسفة للشعر فألف كتاب: “فن الشعر”. على الرغم من التنافر بين الشعر والفلسفة، إلا أن ثمّة من يرى أن الفعل الفلسفي قريب من الفعل الشعري، الشاعر والفيلسوف كلاهما يتعاملان مع المدهش، ويكاد الشاعر الكبير أن يكون فيلسوفاً بالعمق، حتى ولو لم يكن من قراء الفلسفة، ويجوز الحديث عن شعرية ما في بعض أعمال الفلاسفة.
مجّدت الحداثة الأدبية في الغرب الفلسفة، وأوجدت مشتركات بين الأدب بكل أجناسه وبين الفلسفة، ولاسيما بين الفلسفة والشعر، ونقطة التلاقي هي في ذاك الفضاء الغائم والغامض للميتافيزيقيا. يقول سان جون بيرس: “عندما يهجر الفلاسفة العتبة الميتافيزيقية، يتعيّن على الشاعر أن يتعهد دور الميتافيزيقي، وفي أوقات كتلك يكون الشعر وليس الفلسفة الابن الحقيقي للدهشة”، أما غوته فيرى أن “الشاعر بحاجة إلى الفلسفة كلها، ولكنه يجب أن يتجنّبها في عمله”. ويتحدث هايدجر حين يكتب عن الشعر وعن الشاعر هولدرلن، عن “ينابيع الأبدية” ويرى أن الشاعر يقف كدليل بين البشر وبين السماء، أي أنه جسر بين عالمين. ويرى بول فاليري، وهو من الشعراء الفلسفيين أن الشعر ملحمة العقل ووجدانياته، لكنه يميل إلى فك الارتباط بين الشعر والفلسفة، لأن الشعر فن من الفنون، بينما الفلسفة تميل إلى نظام آخر من الكلام والجدل، ومن المعروف أن فاليري ينكر على “هيغل” صاحب كتاب “علم الجمال” أنه يفقه شيئاً في الفنون!، وتلحظ الكاتبة الإسبانية ماريو ثامبرانو أن كلاً من الفلسفة والشعر ينطويان على نقص، فلا نعثر على الإنسان الكامل في الفلسفة، ولا نعثر على كلية الإنسان في الشعر، تقول: “في الشعر نعثر مباشرة على الإنسان الملموس والفردي، وفي الفلسفة نجد الإنسان في تاريخه الشمولي”.
الشعر عصيّ عن التعريف، بينما الفلسفة، والاندهاش أصل التفلسف، منهج ورؤية وشكوك. الشعر يمضي في الغامض والمدهش، والفلسفة يمكن أن تتجوّل في هذا الحقل إلى حين أو لبرهة قصيرة، لكن بما أنها حكمة لا تستطيع كما الشعر أن تستقر في الغامض، وإلا تكون تهويمات.
وخلافاً لأفلاطون، يرى البعض أن الشاعر قادر أن يلهم الفيلسوف، والشاعر العظيم وظيفته أن يحدث التوازن في العالم الذي يُعرف بـ:”العدالة الشعرية” التي يتركها الشعر العظيم كأثر ممنوح للعالم وللأفق الوجودي.