أيقونة الحرب والسلام
غالية خوجة
لماذا الألم الثقيل يستوطن أرواحنا وقلوبنا وعقولنا ونفوسنا والزمان والمكان؟
الألم الثقيل ما زال يحيط بالنهار، والنهار يمضي مع التابوت، في التابوت، والظلمة الحمراء تحيط بي، وتخبرني: لسنا في “جحيم دانتي”، ولا في محيط الظلمات الذي تستوطنه “ميدوزا” هوميروس، كأننا الشخوص الغائبة من “رسالة الغفران” التي أبحر معها المعري.
الألم المجذوب إلى قلبي يتفتّح براعمَ لغات، وينشج معي، وأنا أمدد أمي المكفنة بالأبيض على سريرها الترابي الأخير.
كم كان الألم ثقيلاً ذاك اليوم على قلبها قبل الانطفاء، على قدميها المتدليتين من الكرسي المتحرك، على روحها المتسعة بالنور وهي تطلب أولادها جميعاً ليرفرفوا حول آلامها وأحلامها وذاكرتها المتشجّرة بحب الوطن.
منذ ستّ وتسعين عاماً، وأمّي أيقونة الحرب والسلام، لجبروتها الشفاف طيور وسنابل وغيوم وحقول، ولروحها النازفة بالمحبة والتضحية تحولات الشمس.
كان الوقت الصباحي ينتزع لحظاته الأخيرة مع نهاية يوم الاثنين 2 آب، ليتركني يوم الثلاثاء التالي بلا أمّ إلى الأبد، يومها، لم أكن أقلّ حزناً من قمر السنة الهجرية 1442 وهو يصغر مثل ابتسامة أمي ليولد من جديد 1443 وتموت أمي مهاجرة إلى الخالق مع سنة هجرية جديدة.
يا تراب أمي، كن برداً وسلاماً عليها، ولا تكن مثل 96 عاماً عاشتها مظلومة صابرة قنوعة غريبة فقيرة مضحية مناضلة تفدي وطنها وبيتها وعائلتها، ناسيةً ذاتها كما المتصوفة الزاهدة العابدة.
لأمي طفولتها الأخيرة، كم نادتني: “ماما غالية”، بأجمل صوت أسمعه وسأسمعه لشدة حبه الخالص وصدقه الصافي، لأمي تحولات الطفولة التي أعادها الله إليها وقد بلغت من الكِبَرِ عِتيّاً.
كأن قلوبنا تهرم بعد أمهاتنا، أو تصبح حرائقَ في غابات الوقت، فننسانا حطباً يطفو على الغيوم والبراكين، ويناوشُ الزلازلَ، ويردد”ومرّتْ على قبرها زهرةً من مطر، ومرّتْ نسيماً وشِعراً وصبراً معطّرْ، مي رياحين نبضي وقلبي المكسر، لأمي ملاكي ملاك شفيف يسطّر: غريبٌ سوانا ولسنا الغريبَ المقدَّرْ”.
وما زلت أمرّ على قلبها وقبرها قصيدة لن تكتبها اللغاتُ، لكنها مرفرفة في جوف السماء.
لأمّي وأمهاتكم وقتٌ لا نستكمله معاً، ليس ضائعاً ولا موجوداً ولا مفقوداً، وقتٌ من حربٍ وسلام وانتظار وانتصار.
ما زلت أنتظر أمي كل صباح لأوقظها، وندخل في عالمنا الغريب، تحدثني وأحدثها بحرية لا تعرف القيود والحدود.
سيحدث أن تستيقظ، ذاتَ صحوة، لتخبرني عن حرب “السفر برلك” وكيف كان المحتل الفرنسي ينشر جنوده وينهب ثروات البلاد، ويصادر القمح والطحين من المنازل، وكيف كانوا يجابهونه ويواجهونه رغم طفولتهم، وكيف احتملوا أذاه، وهم يرددون بحناجرهم الصغيرة: “تسقط فرنسا تعيش سورية”.
وكان أن مشت معي يوم كانت تمشي إلى الأماكن القديمة في حلب وتحدثني عن “القشلات” البريطانية والألمانية وغيرها، وكيف ذهب كل محتل وسيذهب، لتعرفني بمصائب الحرب العالمية الأولى والثانية، وكيف كانت مع الأجيال التي عاصرتها تدافع عن الأرض والعرض والوطن.
ما زالت قلعة حلب تحتفظ بذاكرة الأجيال أشجاراً ونصوصاً وتأريخاً، وما زالت أمهاتنا نسوغ حياتنا، ونجوماً تضيء سماءنا لنهتدي، فلولا أمثال هؤلاء الأمهات لما أزهرت دماء الشهداء مستقبلاً صامداً، ولما صبرَ الشرفاء في العشرية الظلامية، ولما أعادت فئات المجتمع المختلفة بناء المتجدد من النفوس والمكان والزمان.