ارتدادات الماضي
لكلّ أمة من الأمم شخصيتها التي تميّزها عن غيرها وتفاخر بها أمام الأمم الأخرى، وتحدّد معالم هذه الشخصية عدة مقومات، مثل موقعها الجغرافي وثرواتها وتاريخها ولغتها وسمات أفرادها وغيرها من المقومات، ولطالما كانت لأمتنا العربية شخصيتها المتميّزة وذلك بسبب موقعها الجغرافي الذي يتوسّط الكرة الأرضية ومناخها المعتدل ومساحتها الشاسعة وثرواتها الهائلة والمتنوعة، مما جعل منها هدفاً للغزاة والطامعين من الأمم الأخرى ومعبراً ومستقراً لهم عبر تاريخها الطويل.
وبما أن منطق التاريخ يحتّم أن الأمم تمرّ بعهد القوة والتمدّد والاستقرار، ثم تمرّ بعهد الضعف والانكفاء وعدم الاستقرار، فقد مرّت أمتنا العربية بعهد القوة والتمدّد خارج حدودها في مرحلة الفتوحات، مما جعلها تضمّ الكثير من القوميات الأخرى في مكوناتها ممن يختلفون عن سكانها الأصليين بالعرق واللغة والانتماء، وحدثت هجرات كثيرة باتجاه عاصمة الدولة ومركز القرار لأسباب سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها، وانصهروا عبر الزمن في بوتقة المجتمع العربي وتحدثوا لغته وأتقنوها، حتى أن بعضهم كانوا ممن وضع قواعد اللغة العربية. وقد أضاف هؤلاء للثقافة العربية الكثير في مجال الفلسفة والطب والتاريخ والجبر والهندسة والفيزياء والموسيقا واللغة والكثير من المجالات مما لا يتسع المجال هنا لحصرها وذكر أعلامها، وبعد انحسار دور العرب ودخولهم مرحلة الضعف والانكفاء استقر الكثير من أهل هذه القوميات ضمن حدود أمتنا العربية المعروفة لأسباب مختلفة كالمصاهرة مع العرب والمصالح المادية المختلفة كملكية الأراضي والتجارة وممارسة المهن وغيرها، وقد شكّل هؤلاء ما يُسمّى حالياً بالإثنيات العرقية المختلفة وأصبحوا الخاصرة الرخوة التي تستغلها القوى المهيمنة في العالم كإحدى أوراق الضغط على أمتنا العربية ولخلق دويلات تكرّس التقسيم بشكل نهائي من أجل تحقيق مطامعها اللا محدودة.
ورغم أن تاريخ الأمم متشابه إلى حدّ كبير بتفاصيله العامة، والأحداث التاريخية بكل تفاصيلها هي منتج إنساني يخضع لمعايير متغيّرة تحكمها الظروف والمصالح الآنية وقوانين وأخلاقيات العصر التي حدثت خلاله كتجارة الرقيق التي كانت مشروعة ولها قوانينها الخاصة الناظمة لها قبل منعها وتحريمها بشكل نهائي منذ وقت قريب واعتبارها جريمة ضد الإنسانية، وكذلك القوانين الخاصة بحقوق المرأة والطفل والتي تغيّرت وتطوّرت بشكل لافت في الآونة الأخيرة، والكثير مما كان يعتبر مشروعاً في حقب تاريخية مختلفة من تاريخ الإنسانية أصبح مع الوقت مستهجناً بالعرف العام وممنوعاً في نصوص القانون، إلا أننا نلاحظ أن الدول المهيمنة تقوم بتمجيد تاريخها وتصدر رموزه باعتبارهم أبطالاً تاريخيين لكنها في الوقت نفسه تضع تاريخنا تحت النقد والتجريح الدائمين وتهاجم رموزنا التاريخية بكل قسوة، وتقوم بتشويه صورتهم بشكل دائم وممنهج، وحتى إرثنا الأدبي ولغتنا العربية اللذان نعتز ونفخر بهما لم يسلما من النقد والتجريح ومحاولة طمس معالمهما وتهجينهما رويداً رويداً تحت ذرائع مختلفة كالحداثة ومواكبة العصر وما شابهها، فهل نحن أمام هذا المفصل التاريخي بحاجة لمراجعة شاملة ووقفة مع الذات، أم ندسّ رؤوسنا في الرمل كالنعام لتجاهل الأخطار المحدقة بأمتنا؟!.
أمين إسماعيل حربا