الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

القطيعة

عبد الكريم النّاعم

*نبدأ من معنى “قَطَع” لُغويّاً، فقد جاء في معانيها: قَطَعَ الشيءَ: حَزَّه وفَصَله/ قَطَع النّهر: عَبَره/ قَطع فلان الحبْل أو بحَبْل: اختنق”.

*وفي لهجتنا الشعبيّة في العديد من الأماكن في سوريّة، إذا أراد أحد ما التعبير عن شيء كريه لا يعجبه يقول: “ييي.. قَطيعة، تِقطعوْ”، أمّا القطيعة بين البلدان العربيّة التي خطّط لها الغرب النّهّاب فحدّث عنها ولا حرج.

*من مخَلّفات عشريّة النّار التي لم تخمد كلّيّاً، على كثرة هذه المخلّفات: القطيعة، أعني القطيعة بين النّاس، وهو ما لم يكن من قبل في مجتمعنا السوري، وهي ربّما كانت ظاهرة في المُدُن أكثر من الأرياف، وذلك لأنّهم في الأرياف يخرجون إلى الحقول للعمل، وأثناء ذلك يلتقي النّاس، وقد يستعيرون من بعضهم بعض الحاجيات، والأرياف كما نعرف تاريخيّاً أكثر انفتاحاً، في الطبيعة كما في النّاس، وللأسف ثمّة مَن أخبرني أنّ هذه الظاهرة قد تراجعت تراجعاً مخيفاً ومُنْذراً حتى في الأرياف، فلم يعد الريف كما كنّا نعرفه قبل هذه الجائحة التي وصل تدميرها إلى الحجر والشجر والبشر.

*في المدينة طبيعة أعمال أبنائها، في الغالب، تفرض اتصالاً أقلّ، فالموظّف، أو الحرَفي (الحرْفة بمعناها الواسع: التاجر- المحامي– المهندس- صاحب الحرْفة اليدويّة الخ..) ما أن يعود من عمله حتى يخلد إلى الراحة، مكتفياً بأنس ما أنتجتْه المدنيّة الحديثة التكنولوجيّة، كالتلفاز وما شابه، ليغسل أتعاب يومه، استعداداً لدورة أخرى من يوميّات الحياة، فحضور (الأسرة) والتقاؤها اليومي كما كان عليه الحال في أربعينات القرن الماضي قد انقرض، وتفرّقت الأسر، وفي البناية السكنيّة الواحدة تجد العديد من أصحاب الحرف، وكلّ مُكتفٍ، أو شبه مُكتفٍ بأسرته وبنفسه، وهكذا تكون التكنولوجيا، مضافة إلى مؤثّرات أخرى،.. قد سحبتْنا، بشكل ما لنُصبح كالأُسَر في الغرب، حيث لا أسرة.

*التّزاور الذي كان بين الجيران في المناسبات تقلّص لدرجة الغياب إلاّ في حالات الوفاة، وأن تُلقي تحية الصباح على مَن يُجاورك، حتى وإن كنتَ لا تعرفه، كما كانت عليه الأحوال قديماً،.. هذا انقرض في الغالب، و(السّكْبة) التي كانت عُرفاً بين الجيران صارت من قصص الماضي.

الذين يتواصلون الآن هم المليئون ماليّاً، ولا تسأل كيف امتلؤوا حتى التُّخمة وما فوق التُّخمة، فالكل يعرفون ذلك، بما فيهم المُتغوّلون أنفسهم، يتبادلون الزيارات، أو الدعوات إلى المطاعم والمقاصف، وربّما اختلقوا مناسبات لا قيمة لها ليحتفلوا، وليأكلوا، ويسهروا، ويمرحوا، والغالبيّة الغالبة تُصارع من أجل البقاء على قيد (العيش)، ولا أقول (الحياة)، لأنّ معنى “العيش” هو أن يكون همّك الحصول من الطعام على ما يبقيك على قيد “العيش” ليس أكثر!!.

*قال لصاحبه في حوار عابر: “لماذا لا تزور أصدقاءك وأقرباءك الذين كنتَ تعرفهم ذات عام؟!!”.

أجابه: أخشى أن أُحرجهم في تقديم ضيافة ما، كما كنّا نفعل قبل سنوات.

قال له: أنا أعرف أنّ لديك أقرباء وأصدقاء ميسورين، فهل تُحرجهم إذا زرتَهم؟!.

أجابه بشيء من الانكسار الخفيّ: هَبْ أنّي فعلتُ ذلك، وضيّفوني، وجاء أحد منهم لزيارتي، فماذا أفعل؟! أنت تتكلّم وكأنّك من خارج عالمنا الذي نحن فيه!.

هزَّ رأسه وبدتْ عليه ظلال وحشة ضاربة وقال: “معك حقّ”، لقد انحسرت ظاهرة التفاعل الاجتماعي التي كنّا نمتاز بها ذات يوم لدرجة الانعدام، ولم تعد قائمة حتى بين الأخوة وأبناء العمّ من الذين يودّون بعضهم، ولم يبق إلاّ الموت يجمع البعض في تعزية باردة، وفي لقاء جاف ليس فيه شيء من ماويّة الحياة، نسأل الله الفرج.

aaalnaem@gmail.com